يعيش الشاعر تحديات كبيرة في زماننا المليء بالفوضى والاضطراب والكآبة والقلق، ويحاول ما أمكن الخروج من دوامة التشيوء، قد ينجح أو يفشل ويشعر بالعجز عن القدرة على التغيير.
ومن الموضوعات التي يعالجها الكاتب ما سماه الكاتب السويسري "بيكار" بأننا نعيش أوضاع "انخلاع وتفكك في مفاصل عصرنا". (1) وهذا يعني وجود عالمين للإنسان وكلاهما يضجان بالفوضى والاضطراب، العالم الداخلي والعالم الخارجي.
إن الاغتراب يحوم بقوة في سماء عالم الشاعر، والاغتراب لغة، يدل على البعد، ومعناه الابتعاد عن الوطن. (2)
فنقول عن المسافر إلى خارج الوطن، أنه في غربه واغتراب، ولمن تزوج من غير أقاربه بأنه اغترب. (3)
أما اصطلاحا فجاء بمعنى تغيير المكان والانفصال عنه، أو الانتماء والانتساب لشخص آخر، أو إلى مكان آخر، أو قوم آخرين.
يطغى الاغتراب على أجواء القصائد، والاغتراب ظاهرة وجدت مع وجود الإنسان على الأرض، فصراعه مع الظواهر الطبيعية أشعره بعدم الفهم، والخوف ومحاولة الانتصار على أفكاره المشوشة، ومع نشوء المجتمعات ظهرت الأزمات والمشاكل التي سببت الاغتراب للإنسان، وقف الإنسان بكل قوته وطاقته العقلية والروحية في مواجهتها، كان ينجح حينا بالثورة، وأحيانا أخرى يفشل ويستسلم، وينعزل ويتكور على ذاته.
وفي عصرنا الحالي يعاني الإنسان العربي من الاغتراب المتعدد، وكون الشاعر يمتلك مشاعر فياضة، وإحساس عميق في الحياة، كان تأثير الاغتراب عليه كبيرا، فالإنسان العربي يعاني من الاغتراب لأسباب لا تخفى على أحد، أولها شعوره بانعدام الحرية، وأن القيود تكبله وتجعله غير قادر على ممارسة إبداعه، وحياته كما يشتهي ويريد، أما السبب الآخر فهو بلا شك، رؤية الأوطان وقد نخرها السوس، والتهمها العفن، والشعور الطاغي بصعوبة تخليص الوطن من أمراضه الناتجة عن الاستبداد السياسي، والظلم والقهر الاجتماعي والتآمر من الدول الأجنبية للبقاء على الأرض العربية لنهب خيراتها.
وفي عالم الشاعر الذي انهزمت فيه القيم الروحية، وطغت المادية، وجد إنه يعيش في عالم يفتقر إلى الحب والإنسانية، فحاول في شعره أن يبنى عالمه الخاص.
فالاغتراب يقود الإنسان إلى الشعور بالوحدة والانعزال، والانسحاب من الحياة، وقد قاد الاغتراب الشاعر إلى الضجر من كل شيء المدنية والقرية، وصادق الليل، ورافقه الحزن، وسلم نفسه للعاصفة راضيا مطمئنا.
يقول في قصيدة "بردة الأشواق":
".....
ومدن حافية
على نعش النبيذ
......
وأنا الغريب!
أطرق
أبواب الفجر؛
واسأل
عينيك
عن قطر المدى
على زفرات الوصول!.". (4)
وفي قصيدة "أنثى السبيل" نجد الأبيات التي تدلل إلى ما ذهبنا إليه من الشعور بالضياع والوحدة، يقول:
"على مراسيم الطريق،
مزمار كهف.......
نشيد يرقة ضوء
خالفت نجمة الولادة٠
تئن في محاجرها!?
/عبثية الطريق/
ما من خليل
على سهل الغبار;
يزكي وقع الخطى٠
وليد السمار
يغذي هلال الذكرى!......
ثمالة الأقدام،
جزر الرخام". (5)
ويستحضر من التاريخ الشخصية المشهورة الخنساء، ويضيف:
"ووصية...
تجاعيد** الخنساء**
تطفو
على المحيا
تترجم فراغ المقل.
حلة رمادية،
وسديم،
يحمل حلم الآهات
الساكنة في مدن الفجر.
فاضت حناء الأنين
على نجمة الزغاريد
أين السبيل؟!
تلال مارقة على وشم الجوع....". (6)
فالطريق مجهولة بالنسبة إليه، وهو يبحث عن يقين يوصله إلى الراحة والآمان دون جدوى، يضيف:
وخلف الأسوار
ريح مهزومة
وبكاء...
أعراف ليل
تخدر
موجة الصمت
امتحن جسد البداية
عندما يشقه المنفى
وتعيد الواحة
غسيل الصحراء...". (7)
وهنا نرى الشاعر يعاني من الانفصال الاجتماعي والمكاني، ويورد الباحث يحيى عبد الله في كتابه (الاغتراب). (8) مجموعة استخدامات للمصطلح في وقتنا الحالي، ومنها:
التصدح الذهني الذي يعني نقص في الشخصية وعدم اكتمالها، إذ يشير إلى عدم الوعي، أو نقص الصحة العقلية، ويطلق على الأشخاص غير الأسوياء، وهنا نرى استخدام المصطلح بدلالة طبية.
والاغتراب الداخلي حيث ينكفئ الشخص وحيدا، وتمتاز علاقته بالآخرين بالبرود، كما يشير إلى اضطراب الذات وعدم قدرتها على القيام بواجباتها اتجاه نفسها والآخرين.
فالشاعر يحس بالاغتراب وهو داخل وطنه، وهذا أقسى الأنواع، فالمدن التي كانت جميلة ومليئة بالخيرات، أصبحت عطشى، وينخرها السوس، يقول:
"تتآكل
مدن الغيث
على شرفة الظمأ". (9)
ويقول في قصيدة "شهاب طقوس على ريح مساء راحل"
"كم تاريخ لديك
في رعشة الفواصل
والصوت المذبوح
على ريشة الدم
الشمس على حجر السماء
تلفظ أنفاس أخرى
من يكتب رهينة اغتصاب الملوك
وأبراج المدينة
تحضن الأمسيات الحزينة
تحث غرور الإقطاع...". (10)
وفي ظل متاعبه التي لا تنتهي، يرحب بالموت، لعله يتخلص من كوابيسه، وفي النهاية لن يلحظ أحد غيابه، يقول:
"يا زائري
هل قرأت ديواني الغائب
بين تابوت الفصول
وواد الحجر
متى بدأنا
نحلم
حلم المشاعر
ماتت أيتام الجفون
وارتشفنا فنجان الضجر
فالموت قابل
للاستهلاك
حين يأوي
حلمنا البعيد
حين تنفطر
نجمة
في سعال الجسد". (11)
فالمكان الأليف بالنسبة له تبخر وأختفى، ولم يبق غير الحزن والألم يلفه من جميع النواحي، يقول في قصيدة "عزلة":
"وعلى خدِّك النّائِي
حُزنُ العُشْبِ والخيل والشّجَر...". (12)
فالاغتراب ما هو إلا قلق ويأس يؤثر على النفس البشرية. يحاول الشاعر الهروب إلى عالم أجمل، وهو يحمل النقمة على نفسه وزمانه وواقعه، هرب مشحونا بالغضب والقهر من واقع متخم بالمرارة والشقاء.
والإنسان في هذه الحالة "لا يعود ممتلكا لناصية جوهره وهكذا فإنه يغرب ذاته عن طبيعته الجوهرية أو يصبح مغتربا عن ذاته". (13)
كما يرى هيجل علاقة الإنسان بمجتمعه.
فالذات عندما تصدم بالحواجز المجتمعية مثلا، وتتوقف عن نموها الطبيعي، أو "أضفي الغموض عليها أو تعرضت للاختناق، فهي ذات تعيش حالة اغتراب ذاتي". (14)
يقول في قصيدة "عزف على أوتار الليل":
"كريح منفية
أمشي
وفي يدي
عكاز شوقي
أمشي
في مستعمرات اللهيب
لا شرق
يأذن لي
لا غرب
يحمل حلمي
تغتالني الذكرى
ونعوش الأيام الغائبة....". (15)
غير إن الشاعر لا يستكين إلى الضعف والوهن، ويبذل مجهوده للخروج من دوامة الاغتراب، فيلجأ للكتابة لتكون سلاحه ضد اليأس، ويتحلى بالصبر والمقاومة، يقول:
"وراء خصلة القمح
وهديل
خلف لهيب الوصول
سأمشي...
على تلول الموج
ووردة العاصفة
سأمشي...". (116)
وفي النهاية لا بد من القول أن الشاعر أحمد بياض، كاتب غاضب، ويظهر على شعره التشظي، ويجد المتلقي صعوبة في الإمساك بالفكرة التي تتوارى خلف الألفاظ الرنانة.
الهوامش
1- ج. دونالد آدامز. مسؤولية الأديب. في: الأدب وصناعته. بإشراف روي كاودن، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، بيروت: منشورات مكتبة منيمنه، بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر في نيويورك، 1962، ص 178.
2- انظر الرازي. مختار الصحاح. القاهرة: المطبعة الأميرية، ط8، ترميم محمود خاطر، 1954.
3- انظر ابن منظور. لسان العرب. القاهرة: المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشرن ج2، 630-711ه.
4- أحمد بياض. موقع الكاتب على الفيس بوك.
5- أحمد بياض. موقع مجلة أضواء الفكر للنشر والتوثيق.
6- المصدر السابق.
7-المصدر السابق.
8- يحيى العبد اللّه. دراسة تحليلية لشخصيّات الطاهر بن جلّون الروائية. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2005، ص 22.
9- أحمد بياض. موقع الكاتب على الفيس بوك.
10- أحمد بياض. مناجم في حوض الشتاء. الدار البيضاء: منشورات جامعة المبدعين المغاربة، ط1، 2017م، ص 8.
11- المصدر السابق. ص 10.
12- المصدر السابق. ص 15.
13- ريتشارد شاخت. الاغتراب. ترجمة كامل يوسف حسين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980، ص 101.
14- المرجع السابق. ص 199.
15- أحمد بياض. مناجم في حوض الشتاء. مصدر سابق، ص 47.
16- المصدر السابق. ص 112.