ورود الموسوي
شاعرة عراقية/ لندن
(قالوا إنْ يَسْرِقْ فقد سرقَ أخٌ لهُ من قبل فأسرّها يوسُفُ في نفسهِ ولم يُبْدِها لهم .../ الآية 77 من سورة يوسف)
حينَ أرادَ يوسُفُ الصديق استبقاءَ أخيه في مصر افتعل حادثة (الصواع) المذكورة في القرآن الكريم فما كان من إخوته الذين أذاقوه الويلات ورموه في البئر (إلى آخر القصة المشهورة) إلا أن يتهمّوه بالسرقة وهم لا يعلمونَ أنّه هو عزيزُ مصر الآن .. ليثبتوا أنّ أخيهم هذا (وكما تقول الرواية أن اسمه بنيامين كان أخو يوسف الشقيق) لا يختلفُ عن أخيه يوسف الذي اتهمّوه بأنّه سرَقَ (بيضةً) يوماً ما!
لم أكن أفكّرُ وأنا أقرأُ هذه الآية بمعناها التفسيري فهي واضحةُ المعنى والمبنى، لكنّ ما استوقفني حقّاً هو شعور (هذا الإنسان، يوسف) وهو يُتّهمُ من إخوته بما ليس فيه ولا يمكنه الدفاع عن نفسه هكذا نحنُ حينَ ننشأُ مسروقين من أنفسنا ومن رغباتنا ومن بلداننا ومن ترابنا ونحن لا نملك القدرة على الصراخ أو أخذ حقّنا كما ينبغي، أو معرفةَ السارق الحقيقي لنا بعد كل هذي السنين التي تعاقبت وكثرة الرواة في نقل أحداث عمرنا المنهوب علناً!
ما هي إلا أيام قلائل فصلتنا عن التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني وسرقة فلسطين في وضح النهار، ما بات يستوقفني بعد كل هذي السنين من السرقة العلنية والذي أصبح مضحكاً أن العالم كله متضامنٌ مع فلسطين بما في ذلك (أولاد العم) الذين يشجبون عنف أخوتهم اتجاه الفلسطيين بل منهم من يطالب بحقوق كثيرة قد لا يطالب بها الفلسطيني نفسه، والنتيجةُ تضامنٌ لا غير!
هذا التضامنُ هو سرقةٌ أخرى لحق الإنسانيةِ كلها ببيت المقدس وهذه البقعة من الأرض، لكنّ العالم كله بدأ ينحو منحى آخر في سرقة الأراضي والشعوب، ما يحدثُ الآنَ في عالمنا العربي الذي بدأ ينقسمُ لدويلاتٍ صغيرة داخل الدولة الواحدة، وهذه الدويلاتُ التي بدأت تؤسسُ أعمدتها على الحقد والكراهية إذ أنتجا (التكفير) لكل من يخالف بالرأي أو الفكرة أو العقيدة أو المذهب أو الدين! وما أسهل التكفير في يومنا هذا حتى باتَ التعدد والإختلافُ الذي هو أساسُ خلق الله للبشر تُهمةً جاهزة لكل من لا يروقنا! ما يحدثُ اليوم في العالم من انقسامات هو نبوءة أخرى على ما سيفعله العالم بعد خمسين عاماً من الآن، إذ سيتضامنُ أيضاً في إرجاع العالم العربي من سارقه المجهول، ولا أدري حينها هل سيظلُّ متضامناً مع الفلسطينيين كما الآن!
سرقةُ الأرضِ بشعبها أبشعُ أنواع السرقات، خاصةً لو كانت تموَّلُ بتاجرٍ جديد يُدعى (الحقد).
لا أريد ادعاء الحس الوطني ولا أريد رفع شعاراتٍ جعلت عالمنا العربي يتقهقرُ إلى الوراء ولا يتقدم خطوة ولا ينجز غير كراهيةٍ مقيتة تقف الإنسانيةُ مكتوفةً أمامها! حتى أننا بدأنا نروّج للحقد والكراهية فيما بيننا كشعوب وكبلدان رغم تضامننا مع قضايانا وبخاصة مع القضية الفلسطينية التي لم نتخلى يوماً عن التضامن معها منذ ستين عاماً!
علينا أن نتحلى بالشجاعة والصدق أكثر لنقول أن التضامنات التي نراها ما هي إلا تبرير السرقة الكبرى لهذا الشعب ولهذي البقعة المقدسة من الأرض، وكل ذاك كان بذرةً أولى لتفريق الإخوة وإضعاف الأبِ، فكل ما نراه اليوم هو نتاجُ سكوتٍ مرّ عليه دهرٌ، حتى عاثَ المرض واستشرى في باقي الوطن العربي، ما نراهُ اليوم من تفرقةٍ وقتل ودمار هو وليد حقد دفين أفرزته العقول التي لا تريد أن ترى ( يوسفَ) مقرّباً عند أبيه النبي، هذه العقول التي ترفض التعددية والمشاركة والاختلاف في الرأي والفكر والعقيدة والمذهب والدين والطائفة، بدأت تحفرُ لكل العالم العربي لتوقعه في بئر مالها من قرار، فأصبحنا كمن يحفر تحت قدميه حفرةً سرعان ما ستتسع ليقع بها ويهلك!
علّ قارئ يقول: بعد كل هذا ماهو المسروقُ منا؟
وأقولُ :
حين تسكتُ أمام حقّكَ وأنت بلا أعوانٍ فأنتَ مسروقٌ من ضميرك..
حين تتنفسُ هواءً غير الهواء الذي تتمناه فأنتَ مسروقٌ من رئتكَ حتى أقصى دماغك..
حينَ تخافُ من يومكَ وساعاتكَ وأنت تفقدُ أمانك في أرضكَ فأنت مسروقٌ من وطنك..
حين تعيشُ كواجبٍ فرضته عليك الحياة فأنتَ مسروقٌ من نفسك..
حين ترى بلدكَ نهباً وتراثكَ نهباً فأنتَ مسروقٌ من هويتك..
حين تبدأ بفقدان شهية الوطن وتراه كذبةً حاول الساسةُ ترسيخها في وجدانكَ فأنت مسروقٌ من حقيقتك..
وحين تشعرُ بالحقد أو الكراهيةِ ممن سرقوك فأنت مسروقٌ من إنسانيتك..
وختاماً أقولُ:
إننا مسروقون منا.. وما إخوة يوسف إلا نموذجاً مصغّراً للعالم السارقِ وهو يهوي بالمسروقِ في وادٍ سحيق