الصمتُ يهزمُ الاعتراف.
وحالُ الاعترافِ هنا ليس مرادفاً للبوح أو منح الشرعية أو القبول بالآخر؛ بل حالهُ أن يكونَ مرادفاً للتحريف وللقصور الذاتي.
أما الصمتُ فليسَت مقصديتُه هنا السكوت بعكس الإفصاح أو الخرسُ بعكس الكلام؛ بل أن يكون مرادفاً لامتلاك المقدرة أو السيطرة على الزمن لجعله إما أبطأ وإما أسرع.
وبممارسةُ الصمتِ في زنازين التحقيق والاعتقال، حيث كان أسيراً فشهيداً فرمزاً، أسس إبراهيم الراعي لفكر "البعد الرابع في المقاومة" مؤطراً الصراعَ على حقيقته كما قال في وصيته وفق علاقة التوازي ما بين "النقيض بالنقيض"؛ مُستعمِرٍ ومُستَعمَر. ليكون الكلامُ وضعف الإرادة تجسيداً للتماثل في مقولته التي حقق عكسها بأن "الاعتراف خيانة". لأنه يُمثلُ ضعف المقدرة- التي يؤمن بأنها دائماً ممكنة- في السيطرة على الزمن داخل غرف التحقيق في السجون، بامتلاك المقدرة على عدم الخيانة انسجاما مع رؤيته لهذه المواجهة ومعاييرها ونتائجها وشروطها، التي كان يرى أنها يجب أن تبدأ بالصمت وتنتهي به، لأن الصمت في حالة الراعي تجاوز لكل المتغيرات التي يخلقها السجان وتأثيراتها.
يقوم فعل المقاومة في حيز "مكاني" يُسيطرُ عليه المُستعمِر بأبعادِه الثلاثة المتعارف عليها طولاً وعرضاً وارتفاعاً، لذلك يكون الأسيرُ في سجنٍ صغير، ونحنُ خارجَهُ في سجن أكبر. أما البعدُ الرابعُ فهو"المقدرة" وبالنسبة للراعي كانت تحديدا المقدرة على السيطرة على "الزمن- الوقت"، عبر تمكنه من السيطرة على صمته دون اعترافٍ فاغتاله السجانُ في مثل يوم 11 نيسان من العام 1988.
والصمتُ الذي امتلكه الراعي بالمقدرة على "ركلجة" أو ضبط إيقاع الزمن بالنسبة للمستعمِر جاعلاً منه زمناً أبطأ أو أسرع غير خاضع له ولا يمكن للسجان التحكم به مثلما يتحكم بالمكان (السجن)، أو بالمسجون (الأسير)، بإصراره أحد عشر شهراً على عدم الإدلاء باعتراف واحد لسجانه، قدم معنى جديداً لمقاومة المستعمِر بغير بعدها المتعارف عليه القائم على ثنائية (إما، أو): إما عسكرية أو سلمية، إما داخل السجن أو خارجه، إما الموت أو الانتصار.
البعد الرابع للمقاومة، أن تكون قادراً على التمتع بإرادة الفعل دائماً في الأبعاد الثلاثة التي يفرضها المُستعمِرُ قسراً. تماماً مثل إضراب الكرامة 1 و2 ، مثل البالونات الحارقة على المستوطنات في غلاف قطاع غزة المحاصر، مثل المطارد أو الذئب المقاوم، مثل ما قد نفكر فيه (..).
فالراعي قاوم عسكرياً وسلمياً، داخل السجن وخارجه، وعاش ومات مستشهدا منتصراً على سجانه ليس لسبب سوى أنه كان حراً، لأنه كان يمتلك المقدرة على المقاومة في الزمان والمكان المسيطر عليهما في غير صالحه وفق الأبعاد القيمية والفيزيائية المتعارف عليها.
لروحه صمتها المقتدر، ولنا تأمل في "البعد الرابع للمقاومة".