بماذا يختلف أطفال غزة عن بقية أطفال العالم؟! بالشكل والوسامة؟ هل هم أكثر شقاوة؟ أقل حظا؟ أشجع؟ أتعس؟.
بدايةً، لنتفق أن أطفال العالم ليسو سواء؛ أطفال كمبوديا وسيراليون وكولومبيا يختلفون عن أطفال السويد وكوريا وكندا، وأطفال "الوحدات" غير أطفال "عبدون"، وأطفال أفغانستان لا يشبهون أطفال ماليزيا.. لكن للطفولة سمات معينة، من المفترض وجود قواسم مشتركة لها في أي مكان.. مشاهد عديدة، تجعلني أكاد أجزم بأن الطفولة في غزة "شيء" مختلف تماما.. شيء عصي على الفهم (رغم تباينها حتى في غزة).
أطفال غزة شهدوا قبل أن يصِلوا سن المراهقة: انتفاضة شعبية مسلحة، وحرب أهلية مصغرة، وأربعة حروب إسرائيلية من الحجم المتوسط، وعشرات الحروب الصغيرة.. شبُّوا وليس في مخيلاتهم سوى ذكريات القصف الذي باغتهم مع انقطاع الكهرباء، واختبارات الخوف، وعجز الآباء عن حمايتهم، ومشاهد الدبابات وهم يقذفونها بحجارتهم الصغيرة.
في مخيمات غزة تختلف الحياة عن أي مكان آخر في العالم؛ يصحوا الناس باكرا، حتى قبل أن تستيقظ الشمس، في أغلب الأحيان بلا سبب. ما يشبه الشوارع ممتلئة بأطفال صاخبين، لم يخرجوا أبدا من حدود القطاع، بعضهم حفاة، في عيونهم بريق غريب، تتجول نظراتهم بين أكوام الخراب، يتنفسون هواءً مخلوطاً بالغبار، وحين ينامون يعصف بآذانهم أنين الخوف، وبقايا أصوات الزنانات، في النهار يركضون وراء حلم شارد، فينتشرون كالفراشات في الحارات والأزقـة، ويلهون في ساحات ضيقة تنبعث منها رائحة الموت، ووسط كل هذا الردم يلتقطون لأنفسهم "سيلفي" وهم يضحكون.
إذا خرجوا للشاطئ مع عوائلهم، داهمتهم قذائف المحتل، لتقتل آبائهم، وإذا خرجوا لوحدهم قصفتهم الطائرات، وإذا بقوا في بيوتهم انهار عليهم السقف، وإذا هاجروا ابتلعهم البحر. ومع ذلك، يحبون الحياة ككل أطفال العالم، رغم أنهم لم يروا منها ما يسرّ، ومتمسّكون بتلابيبها وببؤسها .. على أمل أن تضحك لهم ذات يوم.
ونحن نرى هَوَس أطفال العالم بألعاب "الإكس بوكس" و"الأيباد"، ومتابعة أحدث تطبيقات "الأندرويد"؛ نرى كيف جرّدت إسرائيل أطفال غزة من طفولتهم، وكيف كبّرتهم الحروب بقفزات زمنية أسرع من أقرانهم، وكيف سلبتهم أحلى سنين عمرهم.
أطفال العالم يلعبون كرة القدم في ملاعب معوشبة، ويمضون إجازاتهم في الحدائق المائية، ومدن الملاهي. أطفال غزة يحلمون بأن لا تنقطع عليهم الكهرباء، وأن لا يتأخر راتب الوالد، وأن لا يدلف عليهم السقف، وأن ينهوا عامهم الدراسي دون أن ينقص من صفهم أحدا، دون أن يذوي تلميذاً مشاغباً قبل أوانه.
الخيارات في غزة بشكل عام، ترف غير متاح للأطفال؛ فهم لا يختارون شكل غرفهم، ولا ألوان ألعابهم، ولا هوايتهم المحببة. لا يعرفون الوجبات الجاهزة، والنزهات العائلية، ومع ذلك، يعيشون التقاليد الأسرية للعائلة الممتدة. غرفهم الصفية أشبه بالمعتقلات، لكنهم تفوقوا في كل مسابقات الذكاء.
أطفال غزة عجنتهم الحياة بقسوة، واختبروا أشكالا عنيفة للموت، ودافعوا عن طفولتهم بكل بطولة، دون مساعدة من أحد، لكنهم خسروها.. أطفال العالم (العاديين) ينامون على أسرّة مريحة ألوانها زاهية، ويصِلون مدارسهم بالسيارات، وبأمان، ولكلٍ منهم: "لابتوب"، "هاتف ذكي"، "تابلت".. الطفل الغزي (العادي) ينام مع أخوته الثمانية في غرفة واحدة، ويذهب إلى مدرسته ماشيا مهما كانت حالة الطقس، بحذاء وحيد طوال السنة، وبحقيبة ورثها عن أخيه للمرة الثالثة على الأقل.
الطفولة معذَّبة في غزة، وللطفلة نصيبٌ مضاعف من المعاناة، فهي غير مرغوبة من الأهل، ومراقَبة في كل تحركاتها من قِبَل الحي، ويُفرَض عليها الجلباب منذ الأول إبتدائي، وفي مناطق عديدة، تُزَفُّ باكراً إلى عريس لم تره من قبل، وهي في الصف العاشر، لتتحول دفعة واحدة من تلميذة نجيبة إلى زوجة مطيعة، متفرغة للثرثرة والطبخ وإنجاب البنين.
في غزة يكبر الأطفال بسرعة، ومع ذلك لا يُسمح لهم بمجلسة الكبار، وإذا جلسوا فهم مهمَلين، وإذا تحدثوا، صاح بهم الأب: "أسكت يا ولد، خللي عمامك يعرفوا يحكوا". يغيبون عن البيت طيلة النهار، وجزءً من الليل، شبه مطرودين من بيت ضيق، يخرجون إما للبيع على البسطة، أو للعمل في ورش الميكانيك، وعلى الإشارات الضوئية، أو يتراكضون في الحارات بألعاب بائسة، يعبرون الشارع دون أن يلتفتوا للسيارات. ورغم شحوب وجوههم تراهم يبتسمون بفرح عفوي، وإذا تحدثوا لأي قناة تلفزيونية يتكلمون بالفصحى، ويرددون الشعارات الكبيرة، يسخرون من الموت، ويتوعدون إسرائيل. يخرجون في أي مظاهرة، أو جنازة، ويحملون أي عَلَم، مطالبهم بسيطة، أحلامهم غامضة، أسئلتهم للعالم محرجة، أجاباتهم مباشرة وذكية.
مقارنة أطفال غزة مع أطفال العام غير منصفة، لأن الواقع الذي يعيشونه غير منصف، فإذا كانت حكومات الدول المتقدمة تتسابق على توفير أسباب الرفاهية والسعادة لأطفالها، وتطوير قدراتهم وتنمية مواهبهم .. فإن الوضع في غزة مختلف: الحكومة مشغولة بقضايا أخرى، والطفل في آخر أولويات المجتمع، والأهل ينظرون إليه مصدر دخل إضافي، يريدونه أن يشتغل حتى ولو في جمع الخردة.
أطفال العالم مشغولون بمتابعة "هانامونتانا"، والاستعداد للإجازة السنوية، أما أطفال غزة فيتابعون تصريحات "الزهار"، وأقصى ما قد يحصلون عليه: مخيم صيفي أشبه بمعسكر تدريب، وحتى مخيمات "الأونروا" التي فيها بعض الترفيه، أحرقتها الجماعات الدينية المتطرفة.
الحصار خنق أطفال غزة، وحرمهم الألعاب، والفضاءات المفتوحة، لكنهم بكل براعة تجاوزوا الحصار، واجترحوا لأنفسهم طفولتهم الخاصة، وعالمهم المختلف، وإذا كان "جاستن بيبر" أشهر المغنين المراهقين في العالم، فإن حواري غزة أنجبت الفتى الفنان "محمد عساف"، الذي نطَّ عن السور، واخترق العالمية، و"فارس عودة"، الذي تصدى للميركافا بجسده الطري.
يتساءل العالم (ببلاهة): لمَ أطفال غزة بائسون ؟! ولم تبدو على وجوههم ملامح القسوة ؟! ولمَ عليهم أن يحددوا إذا كانوا مع فتح أو مع حماس ؟! ومن أين أتوا بكل هذه الفصاحة السياسية ؟! كيف سيواجهون الواقع ؟! وأي مستقبل ينتظرهم !؟ لكن أطفال غزة حين يجيبون على هذه الأسئلة يوماً ما، سيفاجئون العالم، وسيصرخون بوجهه، وبوجه كل من انتهك طفولتهم، ولكنهم سيدهشوننا بعبقريتهم.