تحوم الوجودية في أجواء قصائد الشاعر العربي الحميدي، فالشاعر من خلال شعره صور يأسه وقلقه الساكن في أعماقه، يقول رائد الوجودية كير كجور: إنه لا يوجد إنسان على وجه الأرض يخلو من اليأس، فلا يوجد إنسان ليس بحالة يأس بطريقة أو بأخرى، "ولا يوجد موجود بشري تخلو نفسه تماما من كل أثر للتمزق أو الازعاج أو الضجر أو اليأس أو الجزع أو أي صورة من صور التمزق الباطني". (1) ، وكما إن الإنسان يمضي قدما في حياته الاعتيادية وهو يحمل جرثمة المرض البدني في داخله، فهكذا اليأس مرض الروح، وقد تبدو هذه النظرة عند الكثير من الناس، نظرة مبالغ فيها وقاتمة وكئيبة ومتشائمة، ولكنها ليس كذلك، فهي "تحاول أن تلقي الضوء على موضوع يترك عادة في غموض وظلام. وهي ليس كئيبة...هي نظرة علو وتسام ما دام تنظر إلى كل إنسان من زاوية أعلى مطلب فيه وهو المطلب الروحي". (2) أما القلق فخاصيته الأساسية أنه أنطولوجي، "لا يمكن أن تشتق من شيء آخر بل هو يعبر عن نسيج الوجود الإنساني نفسه". (3) وهو بذلك كما اليأس لا يمكن أن يهرب منه إنسان، وهو دائم الحضور، حتى أن كيركجور يقول: "إن غياب القلق هو علامة على القلق. وإذا ما ظن إنسان ما أنه قد تحرر من القلق فليكن على ثقة تامة أنه يخفي القلق في أعماقه، يخفيه عن نفسه من خلال قلقه على القلق! فليس ثمة حالة يغيب فيها القلق". (4) ويرتبط القلق بالمستقبل وامكانيات الذات وحرية الذات، لذا دائما ما كان كيركجور يركز على أحد هذه الموضوعات في تعريفه للقلق، يقول: "ما القلق..؟ إنه اليوم المقبل". (5) أما العلاقة التي تربط القلق بالامكان، يقول: "إن القلق هو الامكان المتوجس للوجود الممكن". (6)
وركز كيركجور على ارتباط القلق الوثيق بحرية الذات، يقول: "القلق هو إمكان الحرية. –ويقول أيضا- إمكان الحرية يعبر عن نفسه في حالة القلق". (7)
وهذا يعني إن المستقبل والامكان والحرية مفاهيم ترتبط مع بعضها البعض ارتباطا لا فكاك منه.
وأجمل تعبير عن القلق، ويوضح حالة الإنسان وعلاقته مع وطنه، قول كيركجور عنه إنه "نفور مع تعاطف، وتعاطف مع نفور". (8) وهذا يشبه ما قاله الشاعر في قصيدة "يا شامة المشرق":
"أعشق الوطن
وطني
ومن الأذى
كرهت موطني.
.......". (9)
واليأس والقلق يؤديان إلى الاغتراب، الذي ينتج عنه الرفض والتمرد على التخلف الحضاري العربي، وضياع الهوية القومية والوطنية وتلاشيها في ظل صراع العالم العربي فيه ضعيف وهش ولا حول له ولا قوة.
يقول الشاعر في قصيدة "قنن الدمس" عن حالة الخواء التي تجلل الوطن الكبير:
" محنطات الفكر
كثرت في الماضي
واليوم
تكلست بغبار الغباء
فكر راكد
علب منتفخة
من الجمود اعتراها الصدأ
قلب مستنقع
ريح عكرت الأجواء". (10)
فأيامه الحلوة ذهبت ولن تعود، ولم يعد شيء يجدي في هذا الوطن الخراب، يقول في نفس القصيدة:
"مرضى أنفس
قنن ليس لها دواء
لا زمزم استطاع تنظيفها
ولا ترتيل آيات ترويضها
حتى
نوائب الأيام لم تفلح". (11)
لا شيء في الوطن غير المرارة والخيبة، يقول في قصيدة "في صمت":
"خيوط الحزن
ترقص على ردفة المحيط
حزن يرافق حزن". (12)
لا شيء مفرح يبقى، والحزن فائض، ويثقل على النفس ويخنقها، ويذهب بالشاعر إلى التشاؤم من الغد يقول في قصيدة "لا ربيع":
" .........
سباحة في نهر الألم
شعور راكد
في كل شيء
هي أعماق المحيط
والعمق عميق
يختزن الحزن
طريق لن ينتهي ابدا
مدام في بلدي
ضباب
دموع جافة
من
رؤية العدم". (13)
إن اليأس والقلق والحزن عوامل سلبية، قد تصبح إيجابية إذا الإنسان وعى آليات التخلص منها، لأن ذلك يمنحه دافعا قويا للبحث عن حياة جديدة تولد من رحم المعاناة.
يقول في نفس القصيدة أن الموت هو الشيء الحقيقي في وطنه،
"يأس آت
من سماء مظلمة
يطول الحزن
من خلال النظر إلى النجوم
تحاول أن
تتجدد الروح
في الضفة الأخرى
لترفع الظلمة
عند تصفح أوراق
الموج
هناك الموت
جالب الخراب" . (14)
يحس الشاعر بالجرح والضياع، والرؤية غير واضحة المعالم حتى أنه يتسأل "من أنا"، يشعر بالوحدة والخسارة والخيبة والخوف والآسى، يقول في قصيدة " الرحلة الهيماء" :
"داخل عبوة فراغ
وِجْهَة
بلا عيون ولا شفاه
مَدْفن
تَنْوِيمة أجيال
انهكها الوهم
من زَيْفِ نور". (15)
يلتهم الوجع واقعه، ويمشي صوب حلمه ينقره في مخالبه القاسية، يقول في قصيدة "ظلال الشفق":
"هي
مشاعر انهيار
تيه معلق
على
جسر مشقق". (16)
يعيش في جحيم الضجر والسواد والخواء، ويضيف في نفس القصيدة:
"يبهت ظلي
تحت حلمي
لم أعد أراه
المكان فارغ
نهاية عشق
فراغ يحمل الفراغ
فراغا
في ليلة غبشاء
وفاة قمر". (17) المصدر السابق. ص 15.
والوفاة هنا تعبر عن الظلام، وانعدام الرؤية والتخبط، وحتى لو حاول أن يخرج من دوامة السوداوية، فأن الهم يقعده، يقول في قصيدة "الحرف الجائع":
"إن رفعت الرأس
يركعه الهم بالسوط
من جديد". (18) المصدر السابق، ص 35.
فهو يعيش وسط أمة:
"صحراء
بلا واحة
محيط
بدون ماء
أمة جافة". (19) المصدر السابق، ص 55
فما هو الحل للقلق واليأس والمخاوف أهو الرحيل عن الوطن، يقول في قصيدة " و اسجدْ له ... لا تقتربْ!":
" الجوع أعمى .. و الغضبْ ..
و حالكٌ مثل الضّبــابْ ..
و منعشٌ، إن تعتزمْ
سفرا بعيـدا
لا وصْبَ فيه و لا نصبْ ..". (16)
ولكن السفر ليس سهلا، كما أنه لن يحل الشعور بالقلق واليأس يقول في قصيدة " أشجار ضاقت غلل":
"أبكيك يا راهنا
من جدب الجبال القِحال
أرى
على ضفاف الأمل
أجثثا
غرقى قوارب الهجرة
تذوب بين أسنّة الرّمال". (17)
هل عليه أن يرضى بالأمر الواقع، ويستسلم له، ويقبل مصيره طائعا؟ يقول في قصيدة "في حضرة الانتظار":
"أعلى النموذج
كيف ألاقيك
والزمن وصول
بعد علة الروح
وجسم اعتلاه الذبول
سيدي
لم أعد مهرا
تخشاه الخيول
أدنو منك بعد
عيشة
تطوي ظهر الوعول
أهي النهاية أيها الموت
يا حاكم الفصول". (18)
وعندما يعجز عن الاستسلام، يلجأ إلى شجرة الزيتون رمز الخير والمحبة والأمل بغد قادم، يقول في قصيدة "كشجرة الزيتون":
"......
السبب
في أمل العيش
شجرة زيتون
وماء
بين الجذور
يمكن إحياء شعوري
نوع من وعد الحياة
ثورة الأشجار". (19)
لا شيء يعيد الوعي المفقود إلى الوطن، ومسألة العدالة التي شغلت تفكيره لا تتحقق. ويشعر الشاعر بعدمية ذاتية وموضوعية نتيجة تحطم الأحلام، وعجز الوطن على الوقوف على رجليه والتقدم إلى الأمام...
يحاول الشاعر بكل السبل الوصول إلى بر الأمان، ولكن دون جدوى، حتى الثورة انحرفت عن مسارها ولم تؤد إلى شيء، يدفعه الألم والخسارة، وسنوات الضياع في السجون والتيه في الوطن والغربة إلى شهوة لا خلاص منها، تقذفه إلى المستقبل، وهو يحمل وجعه وإيمانه، يقول في قصيدة "انتظار الولادة":
"لتقذف بي
برغبة
معصوب العينين
إلى
ضوء خافت
رحلة ولادة
ولادة روح جديدة
بدموع وصلاة!". (20)
تقول فدوى طوقان: "الشك والارتياب في حكمة ما يحدث لنا، حقائق الحياة وحوادثها التي تدحض القول بوجود العدالة، ثم هذا الحنين الأبدي في النفس إلى الاستسلام المطلق، كل هذا يبعث فينا إحساسا دراميا داخليا، ويثير فينا صراعا لا ينتهي بين الشك القلق الحائر وبين النزوع إلى اليقين والتشبث بالإيمان الضائع". (21) ويصل الشاعر في النهاية إلى تساؤلاته عن بذرة الثورة والأمل القادم، يقول في قصيدة "دموع الصيف":
"سألت
هل هناك أحلام اخرى في قلبي؟
تذكرت
قلبي قال
حتى الصحراء لديها الزوار
وبعض الزهور هناك". (22)
بالإيمان والثورة، يمكن فعل الصواب، وتحقيق المراد، هذا ما يصل إليه الشاعر، وينطلق الشاعر إلى الفعل، ويشرع يدق على باب الخزان المقفل.
فالشاعر على وعي كامل بذلك الترابط الذي يجمع العدمية مع الهزيمة، وكان يملك الوعي الكافي ليشعر بقسوة التعاسة، وحياة الشقاء الذي يهبه عدم الإيمان بالغد، واللايقين.
لذلك وحتى يضع حدا نهائيا للتمزق والضياع والألم، فأنه يتخذ "من (الإيمان بالضرورة) حلا عمليا". (23) متماثل مع كيركيجور.
إذا كان القلق هو علاج القلق، واليأس علاج اليأس كما يقول كيركجور، فأن الإنسان الميت في نفسه وعقله، "يصبح القلق الروح المنقذة التي تقود الإنسان إلى حيث يريد..". (24) قلق يطهر النفس والأجواء، قلق لا متناهي لا يزول إلا بإيمان لا متناهي، إيمان سيعطينا الرجاء كل ضد رجاء.
وكأني بالشاعر يقول لنا في ديوانه الشعري كما قال كيركيجور: "اندلعت النيران في شيء لا يمكن أن يحترق،...اندلعت داخل نفسي...!". (25)
إن الشاعر في تنقيبه في ذاته خرج من جزئيته واستحال إلى نفس كلية، وتبنى فلسفته القائمة على الدعوة للاستيقاظ من عالم النيام، "أن عملية التنقيب في النفس في حد ذاتها إثراء للنفس لأن التنقيب أولى الخطوات لاكتشاف أغوارها وحدودها". (26) كما يقول الفيلسوف هيرقليطس.
ورغم كثرة الألفاظ التي تدلل على القلق واليأس والحزن والألم...إلا أن القصائد أيضا تجد لها مكانا لكلمات كالنور والربيع...مما يوحي إن الشاعر ينتصر للحياة والمعرفة، ويسعى صوب الغد وهو يملك الأمل البراق في مستقبل لم تتضح معالمه بعد.
الهوامش
1- إمام عبد الفتاح إمام، كيركجور، دار الثقافة، القاهرة، ط1، 1986م، ص 305.
2- المرجع السابق، ص 305 .
3- المرجع السابق، ص 341.
4- المرجع السابق، ص 341.
5- المرجع السابق، ص 343.
6- المرجع السابق، ص 343.
7- المرجع السابق، ص 343.
8- المرجع السابق، ص 344.
9- العربي الحميدي، دموع الكرز، مطبعة وراقة بلال، الدار البيضاء، ط1، 2018م، ص 103.
10- المصدر السابق، ص 152.
11- المصدر السابق، ص 152-153.
12- العربي الحميدي، في صمت، مطبعة وراقة بلال، الدار البيضاء، 2019م، ص 90.
13- دموع الكرز، مصدر سابق، ص 83-84.
14- المصدر السابق، ص 84-85.
15- في صمت، مصدر سابق. ص 100.
16- دموع الكرز، مصدر سابق، ص 14.
17- في صمت، مصدر سابق، ص 52.
18- دموع الكرز، مصدر سابق، ص 140.
19- المصدر السابق، ص 72.
20- المصدر السابق، ص 21.
21- فدوى طوقان. رحلة جبلية..رحلة صعبة، دار الثقافة الجديدة، سلسلة الأدب الفلسطيني، القاهرة، طبعة خاصة، 1989م. 212.
22- دموع الكرز، مصدر سابق، ص 36.
23- غسان عبد الخالق، تأويل الكلام، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2007م، ص 52.
24- إمام عبد الفتاح إمام، مرجع سابق، ص 366.
25- المرجع السابق، ص 291.
26- هيرقليطس، جدل الحب والحرّب، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 1980م، ص 120.