الحدث الثقافي
'..أحنُ إلى خبز أمي
وقهوةِ أمي
ولمسةِ أمي ..
وتكبر فيَّ الطفولةُ
يوماً على صدر يوم
وأعشق عمري لأني
إذا متُّ
أخجل من دمع أمي !
ليس هناك ابلغ من كلمات شاعرنا الراحل محمود درويش في وصف المشهد بما يذكره بأمه سوى الحميمية الدافئة لخبزها، وقهوتها، ولمستها، بما يتصل ذلك من حنين وعشق غير اعتيادي لوطنه الكبير فلسطين، ووطنه الصغير البروة داخل أراضي العام 48.
وربما، هي الحميمية ذاتها التي دفعت الحاجة ريا القيسية أم إياد (55عاما) من بلدة الظاهرية جنوب الخليل للقول : 'سأحتفظ بالطابون ما حييت.. ولن آكل خبزا غير خبزه'.
ويشكل خبز الطابون أو ما يعرف بالخبز ألفلاحي رمزا من رموز التراث الوطني الفلسطيني، بما يشير الى أن الطابون شكل ولا زال عنصرا أساسيا من عناصر تكوين القرية والريف الفلسطيني، عرف بها وعرفت به، فلا يكاد بيت في القرى الفلسطينية الصغيرة والخرب النائية يخلو من الطابون، فهو جزء أساسي من البيت الفلسطيني.
وتضيف أم إياد التي تخشى أن يصبح الطابون وخبزه من ذكريات الماضي: ' أنا لا أطيق خبزا آخر ولا أتلذذ بخبز غير خبز الطابون، لقد تعودنا عليه منذ الصغر، وأكثر من ذلك فهو يحمل رائحة أمهاتنا اللواتي علمننا الخبز فيه، وطريقة صناعته، والاعتناء به'.
وتتابع: ما زال مشهد الصبايا في الصباح الباكر وهن يحملن وعاء العجين على رؤوسهن لتزويد العمال ورعاة الأغنام بما يحتاجوه من خبز الطابون الساخن، ماثلا أمام ناظري.
وتقول الحاجة أم رياض الجباربن (75 عاما)، الى أن للطابون ذكريات عزيزة على قلبها حيث كانت النسوة تتجمع حوله، مشيرة إلى أن طابونها كان ذو حرارة عالية وقادرا على الخبز للحارة كلها، لافتة إلى التعاون السائد في القرية الفلسطينية.
وتضيف:' خبز زمان كان له طعم مختلف، فلم نكن نعرف الشراء من الخارج فبأيدينا كنا نزرع ونحصد وندرس ونخبز الخبز البلدي الذي حرم منه جيل اليوم، ولم نكن نمرض ولا نتعب ولا حتى نجوع..فالخبز موجود واللبن والسمن،والبيت عامر بما تزرعه أيدينا'.
وتتحسر أم رياض على أيام زمان وتخشى ان يأتي يوم لا يعرف فيه أبناؤها وأحفادها شكل الطابون ولا خبزه، وتقول ان مشكلة الطابون مع الجيل الجديد تتمثل في رائحة الدخان المنبعث منه، وفي الاكتظاظ السكاني.
وتتابع بأن كنتها وبناتها يريدون الخبز على فرن الغاز كونه أنظف ويفي بالغرض بدون دخان ولا تعب بال.
وأعرب خليل موسى (58 عاما) عن حبه الشديد لخبز الطابون، وقال:' ينتابني الحنين والشوق لتلك الأيام التي كنا نتناول فيها خبز الطابون الساخن.. فقدنا لذة تلك الأيام التي اختفت من حياتنا وأصبحت ذكرى بعد دخولنا عصر السرعة، وبدخول المرأة ميدان العمل لم يعد هنالك وقت للنساء للاحتفاظ بالطابون فهو يحتاج وقتا وجهدا وعناية'.
وأشار المواطن محمود خليل حرب (65عاما)، أن القرية الفلسطينية القديمة لم تعد قرية صغيرة، وان الاكتظاظ السكاني والتغير الحضاري لا يسمحان بوجود الطابون بين البيوت، وان بدائل الطابون اليوم كثيرة.
وتذكر أم فايز مطاوع (30 عاما) تحسر أخيها المغترب في أمريكا على 'لقمة' من خبز الطابون، وتقول ان رائحة خبز الطابون ما زالت تسكن عقله وقلبه وهو دائم الكتابة عنه.
وتشير الى أن الظروف الصعبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني جعلته يتمسك بعادات وتقاليد قد لا تتماشى مع العصر الذي نعيش فيه، وان كثيرا من البيوت المستورة اضطرت الى العودة للخبز في الطابون نظرا لارتفاع أسعار الغاز والكهرباء.
ويصنع الطابون، طبقا لمن التقتهم 'وفا'، من التربة الحمراء الخالصة المعروفة باسم ( السمقة)، ويخلط بها القش الناعم ( التبن)، وتنقع التربة في الماء لمدة يومين قبل أن تعجن جيدا ويصنع منها قاعدة الطابون على شكل حلقة، وتترك لتجف في الظل لليوم الثاني، ويضاف على القاعدة عدة ادوار وتترك لتجف قبل صنع باب الطابون الذي يحتاج إلى دقة في الصنع، ويسمى في هذه المرحلة بـ (القحف) قبل ان يترك لمدة أسبوعين حتى يجف تماما ويوضع في مكانه المخصص، وهي غرفة صغيرة تأخذ هي الأخرى نفس المسمى للطابون، ثم تشعل النار بداخله وخارجه بحرارة متوسطة ليحترق'القحف' ويصبح صلبا كالصلصال.
وفي اليوم الثاني، يضيف المتحدثون، توضع في الطابون حجارة صغيرة تسمى ' الرضف' وتغطى بغطاء الطابون، ثم يوضع روث الحيوانات 'الزبل' حوله من جميع الجهات ويترك لليوم الثاني حتى يتم احتراق الزبل بالكامل، ويصبح الطابون لا دخان له وجاهزا للخبيز.