تجليات
"الموت فقر الوصف للمكان" صورة شعرية اقترحها الشاعر الصديق عامر بدران في مجموعته الأخيرة "فوق عنق الغزال"، اقتراح يمكننا الاتكاء عليه لنغوص في سبر أغوار جدلية الحدث المتفاعل في هذه المجموعة التي استهدفت، في العديد من صورها، الحقيقة لتجعل منها حطباً ناشفاً سريع الاشتعال يطيح بالكبرياء والمكابرة.
وبما أن الشعر كالتاريخ يقرأ بتأويلات مختلفة، كل حسب حسه وحدسه، إن اعتبارنا في الأمر شيء من التقصي، فملاحظتي تقول: إن عامر أراد من هذه المجموعة التأكيد على مروره من ضفة الإسهاب إلى ضفة التكثيف بكل دلالاته التجريبية وتساؤلاته وادعاءاته أيضاً، موظفاً قاموسه الشعري لإشغال القارئ في التأويل حيناً والاندهاش أحياناً أخرى.
ولذا، بدأ مجموعته معترفاً:
ما سأكتبه الآن،
لم يكن هكذا
كان أطول، سطراً أو اثنين
كان يُلمس باليد
والشفتين
وكان يُرى.
ليختم نصه الأول الذي اقترحه بعنوان "دخول" بالقول:
فما يهدف النور
ما يهدف النور؟
ما دمت أعكسه للفضاء
وما دمت أخدعه
وأدور.
ولكي يسحب علينا خداعه بإتقان، راح يحادث نفسه وكأنه "طلقةً في الهواء".. لنتسأل بدورنا عن أي هواء يتحدث الشاعر وهو منْ لم يتقن فن الوصف فكان الفقر، "فقر الوصف للمكان" عنوان نصه الثالث الذي تألق فيه حد تحقيق دهشة الانفعال وهو يقول:
كيف أشرح ما أريد بجملتين:
الموتُ فقر الوصف للمكان
الموت أن يتكرر العنوان
ليأتي جواب القارئ، أو لنقل قراءتي للمجموعة، أنه حاول الشرح فأفلح في العديد من نصوصه، وأخفق حين سقطت منه مفردة أسجل كامل اعتراضي عليها هنا بالخط الرفيع والعريض معاً، تلك التي جاءت في نصه "قراءات" وهو يقول:
أقرأ تحذير جيش الدفاع
توقف!
أمامك حاجز تفتيش
منطقة لعبور المشاة
إلى القدس.
نعم هو واقع لا جدوى من إنكاره، ولكن في توظيف المفرادات واستخدماتها، دلالات يجب الانتباه إليها جيداً وجداً، علماً بأن رفض المصطلح هنا لا يعني بالضرورة، رفض الصورة الشعرية التي وردت في هذه القصيدة تحديداً، والتي يمكن اعتبارها محور ديوان عامر، ولكنَّ تثبيت هذه الشاعرية في مربع السياسة، يحمل الكثير من المخاطر التي لا تتوقف فقط عند ترسخ المُصطلح لدى الأجيال الناشئة، والتي يمكن أن تستخدمه دون وعي مسبق لمسألة الرواج والاستقرار في اللا وعي، ما يدفعني للقول: إن توظيف المصطلح هنا، إنما هو توظيف خاطئ من الناحية الاصطلاحية والدِّلالية، وإن كانت له ضروراته الشعرية.
أدعي ذلك وأنا أعي تماماً أن عامر، الشاعر والصديق، لا يرمي لدلالات بعينها، ولكنها لربما دهشة الانفعال التي تستحوذ على الكاتب، وتحديداً الشاعر وهو يدلي بدلوه في خضم انفاعلات متداخلة بين الظاهر والباطن.. خاصة، والشاعر هنا حاله من حال المواطن، وهو يبحث عن حريته في عقله الباطن رفضاً للواقع وقوانينه.. وربما هي محاولة من الشاعر للانتقال من قلق الفردي إلى وجع الجمعي.
ولأن الشعر هو الأكثر براعة في طرح الأسئلة الشائكة، ذهب عامر في مجموعته بإجراءته الخاصة وأدواته المعمارية المميزة، ليكتب ما أراد "فوق عنق الغزال"، فبدت وكأنها شاردة تعزف على أوتار رياح أجمل ما فيها أن لها بداية معلومة ونهايتها في دائرة الاستهداف، وهنا تجلت حرفية عامر مُستثمراً طاقات السرد التي يمتلكها في اصطياد الشعر، باتجاه توظيفه للنص حين ينطلق وحين يقف. فقط يبقى أن ينتبه جيداً للهنات التي يمكن أن تحسب على نصه لا له، خاصة ونحن ندون على عنق، كعنق الغزال وهو الشارد الدائم وأيضاً الحافظ لسبر أغوار الصحراء والمقولة معاً.