في ذكرى حسين البرغوثي، وعيد العمال، ننشر القسم الأخير من أطروحة: «الصَّوتُ الآخَرُ: مقدِّمة إلى ظواهرَّية التَّحوُّل»، 1992، بعنوان: «الجسد بوصفه عبداً، وسلعةً، ورأس مال»، (صفحة 184-190)، وقد حوَّله إلى العربية وحقَّقه عبد الرحيم الشيخ، وسيصدر النص الكامل للأطروحة هذا العام.
السِّلعة كصورة اجتماعيَّة تظهر عند شراء أيِّ موضوع أو بيعه أو مبادلته بموضوع آخر. جسد الإنسان هو نفسه «موضوع»، مثل البيوت والتُّفَّاح، وبالتَّالي، يمكن أن يَصير سلعة، كذلك، كما في العبوديَّة. عند الإغريق، وفي الامبراطوريَّة الرُّومانيَّة، وفي الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، وغيرها، العبوديَّة مألوفة تماماً. رجلٌ أبيض ورجلٌ أسود، هما رجلٌ أبيض ورجل أسود، صورتان اجتماعيَّتان، أي: «ذاتـ»ـان و«موضوعـ»ـان. علاقة اجتماعيَّة تُدعى «العبوديَّة» تسحرهما: فيَصيرُ الرَّجلُ الأسودُ «عبداً»، فيما يَصير الرَّجلُ الأبيضُ «مالكاً للعبد». «العبد»، في أكثر نسخ العبوديَّة قسوةً وهمجيَّةً، يُختَزَلُ إلى «شيءِ»، «بِضْعَةِ» مالكه التي بوسعه تحطيمها، وضربها، وبترها، وإلقاؤها للأسُود لمحض التسلية (كما في روما). و«العبد»، أيضاً، يُشْرَى ويُبَاْعُ، كُلُّهُ، من مخيِّلته حتى أخمص قدميه، أي: إنَّه يصير «سلعةً».
هذه الصُّورة الاجتماعيَّة للجسد، هي طبقة أخرى من رأس البصل، وهي، ما يبعث على الصَّدمة كذلك، علاقة اجتماعيَّة مفروضة بالحديد والنَّار، بقوة متوحِّشة على «جسد» الإنسان. إنَّ هذه الصُّورة الاجتماعيَّة تختلف عن الصُّورة الفيزيائيَّة للجسد كما تختلف خلايا الدَّم عن الشَّاعر. ومع ذلك، فإنَّ أرسطو «يختلطُ عليه أمرُ» الصورتين، أي: العبد و«شيء الطبيعة». ولذا، فإنَّه يدَّعي أنَّ ثمَّة «عبوديَّة بالطَّبيعة». تماماً كما في السُّلَّم الموسيقيِّ، بعض «النُّوتات» تكون تاليةً، في المرتبة، «لنوتات» أخرى جرَّاء طبيعة الصَّوت وحسب. وعليه، فإنَّ بني الإنسان «عبيدٌ» لآخرين بـ«الطَّبيعة»، أيضاً.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن أرسطو يصرُّ، في كتاب الشِّعر، على أنَّ المأساة «يجب» أنْ تستهدف الشَّخصيَّات الجيِّدة [أي: المؤَّثِّرة]. «إنَّ سمة الجودة يمكن أنْ تتوافر لدى كلِّ فئة من النَّاس [لاحظ ما سيأتي]، حتَّى ليشمل ذلك المرأة والعبيد، من حيث الجودة، مع أنَّ المرأة، ربما، هي شيء أدنى مرتبةً، فيما العبد غير ذي علاقة مطقاً» (أرسطو، 29). فالمأساة، بالنِّسبة لأرسطو، هي إيديولوجياْ، «محاكاة» «الأخلاق النَّبيلة» عند النَّاس «النُّبلاء»، أي: عند الطبقة الحاكمة. العبيد غير «صالحين» لمثل هذا الجنس الكتابيِّ الذي هو صورة أدبيَّة، والعبدات الإناث هنَّ كذلك «غير ذوات علاقة» كما العبيد الذُّكور. الجنس الأنثويُّ هو «شيء» ذو مرتبة أدنى، «ربَّما»، وهذه الـ«رُّبَّما» عُنِيَ بها استثناء إناث الطَّبقة الحاكمة من أنْ يكنَّ شبيهات بالعبيد وإناث الطَّبقات الأدنى.
وبعبارة أخرى، فالمأساة ليست مأساةً عائليَّةً وحسب، إذ إنَّ أكثر الأفعال «تنيُّؤاً» وإثارة للشَّفقة، وفعل القتل، هي أفعال محاكاة «للأخلاق النَّبيلة»، أي: هي مأساة العائلات الحاكمة. وعليه، فإنَّ «خلط» الجسد كشيء من أشياء الطَّبيعة بصورته الاجتماعيَّة، كما في «العبوديَّة بالطَّبيعة»، يصير تحييداً للصُّورة الاجتماعيَّة، وهذه طريقة «جيِّدة» للدِّفاع عن مصالح الطَّبقة الحاكمة وتعميتها. وعليه، فإنَّ نظريَّة أرسطو في «محاكاة الطَّبيعة» تعني محاكاة «الانكفاء»، «طبيعة» مصالح الطَّبقة، وبنية الطَّبقة. إنَّه ليس من قبيل «الصُّدفة» أنْ تكون أفكار أرسطو مسيطرة على المسرح والنَّقد الغربيّ لقرون، ولا تزال، وإنْ بقدر أقلّ بعض الشَّيء ممَّا مضى، إلا إنَّ الأصول الطَّبقيَّة لنظريَّته تكاد تمرُّ دون «ملاحظة» أحد.
في العبوديَّة الرَّأسماليَّة، جنوب الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، على سبيل المثال، «العبد» ليس سلعةً وحسب، بل إنَّه أحد صور رأس المال، وبذا فهو يتطلَّب صورة جديدة: رأس مال. في مجموعته القصصيَّة المرأة السَّاحرة، يروي الكاتب الأسوَد تشارلز تشسنت قصةَ عبدٍ صار شجرةً، إي: تحوَّل. «بُوْ سَاندي» هو عبد مرغوب من قبل عائلة سيِّده. ولذا، فقد كان دائم التَّرحال والتنقُّل من مكان إلى آخر لتلبية متطلبات السيِّد. كانت محبوبته، تِيني، ساحرةً، فَحَوَّلَتْهُ إلى شجرة حتى لا يظلَّ رهن إرادة سيِّده، وحتى يَثْبُتَ في مكان لا يبرحه. هذا التحوُّل الذي هو تحوُّلٌ-طَفْرَوِيٌّ للصُّور الاجتماعيَّة للجسد (أي: أنْ يَصير «شجرةً»، «شيئاً من الطَّبيعة» ثانيةً، وأنْ يكون ذاتَ-شجرةٍ واعيةً بذاتها، محتفظاً بهويَّته كذاتٍ في الوقت نفسه)… هو إلقاءٌ ببقيَّة طبقات رأس البصل بعيداً، ونضوٌ لـِجِلْدِ العبوديَّة، والسِّلعةِ، وصورةِ رأس المال.
وللعلم، فإنَّه ليس سلعةً ولا صورة لرأس المال من وجهة نظره: فهو لا «يملك» نفسَه ولا يبيع نفسَه ولا يشتريها، إذ آخرٌ فقط، سَيِّدُهُ، يَعتبره «رأسَ مالٍ» و«سلعةً». إنَّ ساندي يصير هكذا في يد شخص آخر. وفضلاً عن ذلك، فهو ليس «عبداً»، في الأوقات الطَّبيعيَّة، خارج العلاقات الطَّبقيَّة، بل هو «ذات»، «شيءُ» طبيعةٍ واعٍ بذاته، مثل أي شخص آخر. ولذا، فإنَّ صورته الاجتماعيَّة كـ«ذات»، كأنا خالصة، مُصَاْنَةٌ على الرَّغم من التَّحوُّل-الطَفْرَوِيِّ: إنَّه يصير شجرة واعية بذاتها. إنَّ هذا فعل حرِّيَّة: إنَّه ينبذ الصُّور الاجتماعيَّة كلَّها، ويكفُّ عن كينونته «عبداً»، و«رأسَ مالٍ»، و«سلعةً»، ويَصيرُ، ثانيةً، محضَ «شيء» واعٍ بذاته «من أشياء الطَّبيعة». ومع ذلك، فإنَّ هذا التَّحوُّل الشَّامانيَّ هو نكوص: فقد صار «شجرة». لقد طُرِدَ من هيئته الإنسانيَّة، تماماً مثل كاستيلو الدُّبَّة. ولكنَّ الأسوأ من ذلك، أنَّ الأشجار أيضاً هي ملكيَّة خاصَّة لأصحاب الـمَزارع، الأسياد. بعد فترة من الزَّمن، عَقَرَ مَاْرْسْ مَرَّاْبُوْ الشَّجرةَ ليصنع منهاً مطبخاً جديداً، وَجَزَرَهَاْ وكوَّمها. أما تِيني [العاشقة سيئة الحظَّ]، فقد هرعت إلى الشَّجرة لتقنعها أنَّها بريئة من الجريمة (تشسنت، xii).
«الزَّلْـمَتَيْن إلِّلِي جَدَعَو الشَّجرهْ، قالو إنْ الشَّجرهْ مْغَلْبَهْ الجار من زمان: صارت بَلْطَاْتْهِمْ لـمَّا يُظُرْبُوْهَا للشَّجرهْ تـْمَلْطِسْ، ومِشْ قاطعَهْ في الخشب مِنْ مَرَّهْ. وفي كلْ الـمَعْمَعَان والهَزْهَزَه والرُّوْجَحَه إلِّلِي عُمرك ما شُفِتْ زَيْهَا، وقامتْ الشَّجرهْ تَقَعْ… ويا لطيفْ! وثاني يومْ الصُّبحْ، بعد ما شَحَطُوْ الشَّجرهْ عَ محلْ الـجَوَاْزِيْر، تِيني رَوَّحَتْ عَ خُشِّتْهَا، وبعدينْ طَاْحَتْ عَ الـخَلَا تْشُوْف شُوْ صارْ فِ ساندي. ولما شَافَتْ قُرْمِيِِّّةْ الشَّجرهْ والصَّمِغْ طَاْيِحْ منها، وِعْرُوْفْهَا مْرَمْرَمَةْ حَوَلِيْهَا، طارْ ظَبَاْنْ مُخْهَاْ! ولما حَطُّو عِرْقْ الشَّجرهْ الطويلْ عَ طاولة القَصْ، وما لـِحْقُو يْشَغْلُو الـجَزْوُر… الله في هَاْلـحُرْمَهْ بْتِجْرِيْ عَ الطَّلَعَهْ، فَاْرْعَهْ دَاْرْعَهْ، مقطوع نَفَسْهَا، وْبِتْعَيِّطْ، زَيْ المجنونهْ! الله هِيَ تِيني، إجِتْ عَ مَحَلْ الـجَوَاْزْيِرْ وْرَمَتْ حَاْلْهَا عَ الشَّجره قُدَّامْ الـجَزْوُرْ، وصارتْ تْنُوْحْ وِتـْجُوْحْ مِنْ فؤاد مَجْرُوْحْ، وتُطْلُبْ مِنْ ساندي يسامحها، وما يْوَاخِذْهَا، لأنْهَا مَاْلْهَاْشْ خَصْ في كُلْ القِصَّهْ!» (تشسنت. 52-55).
إنَّ قطع شجرة هو جريمة، ذلك أنَّ الشَّجرة هي كينونة واعية بذاتها، أنا كاملة، إنَّها ساندي في صورة شجرة، أي: إنَّ الأنا الخالصة هي ذات مهاجرة تسكن صورة الشَّجرة كما ينبغي لروح شجرة أنْ تفعل. ولذا، فإنَّ الشَّجرة «تقاومُ» فعلَ عقرِها وكأنَّ فيها قوَّة غيبيَّة خارقة للطَّبيعة. وحتَّى بعد أنْ يحوِّل مَاْرْسْ مَرَّابُو الشَّجرة المعقورة إلى جزء من المطبخ، فإنَّ المطبخ نفسه يُظهِر معاناة «روح» ساندي:
«المطبخْ اِلِّلِيْ سوَّاه مَاْرْسْ مَرَّابُو مَكَنْشْ نافعْ، لأنْهِمْ ما لـِحْقُوْ يْسَوُّوْه حتَّى صَاْرْ العَبيدْ يلاحظو شَغْلات غَريبهْ عليهْ. صارو يِسْمَعُوْ شَغْلات بِتْخَابِطْ وبِتْنِيْنْ وِتْعَنْ فِ الـمِطْبَخْ وفِ اللِّيل، ولـمَّا الهَوَا يْهِبْ صارو يِسْمَعُوْ مْخَاْبَطَهْ ومْصَاْيَحَهْ وزْعِيْقْ كأنُّهْ الـمِطْبَخْ يا نار قلبي بِتْلَوَّى وبِلُوْبْ. والـمَوْظُوْع صارْ أعْطَلْ لَقُدَّام، ومَطِلْعِشْ مع مَرْةْ مَاْرْسْ مَرَّابُو إلا تْـجِيْبْ مَرَهْ تْسَاعِدْهَا، وبِقِتْ يا دُوْبْ تِقْدَرْ تِطَّاْوَقْ الـمِطْبَخْ، مِنْ شَاْنْ تْخَلِّصْ الطبيخْ في النّهارْ» (تشسنت، 57-58).
التَّحوُّل هو تحوُّلٌ-طفرويٌّ في الصُّور الاجتماعيَّة للجسد، يتجلَّى في الـمُخَيِّلة، بوصفه تحوُّلاً في صورة الجسد كأحد أشياء الطَّبيعة. وعليه، فإنَّ التَّحوُّل يبدو «خارقاً للطَّبيعة». إنَّه لمن الضروريّ فهم أيَّة صورة بوصفها علاقة، وأيّ علاقة اجتماعيَّة عبر عيون «الأنا» والآخر، على نحو متزامن.
على سبيل المثال، وكما يوضح ماركس في رأس المال، فإنَّ الرَّأسماليَّة نفسها هي صورة اجتماعيَّة محدَّدة، تقاوم نوعين مهيمنَين من صور التَّذويت: الرَّأسماليِّين والأُجَراء. إنَّ جسد العامل بكامله، من مخيِّلته حتى أخمص قدميه، قادر على العمل، على مَوْضَعَة نفسه. هذه المقدرة، أو القوَّة العاملة، هي سلعةٌ في نظر العامل نفسه، حالة مختلفة جذريَّاً عن حالة ساندي. هذا الوضع يبدو مختلفاً كليَّاً، وهو فعلاً كذلك، من وجهة نظر الرَّأسماليّ: إنَّ القوة العاملة التي يشتريها ويستخدمها ليست بالنِّسبة له سلعةً وحسب، بل رأس مال، «رأس مال سلعيٍّ»، تماماً مثل أيِّ «عنصر» إنتاج آخر. وعلى ذلك، فرأس المال هو صورة مهيمنة، وإنَّ عدم رؤية القوَّة العاملة كرأس للمال يعني تعمية كُلانيَّة الصُّور في الرَّأسماليَّة. وعليه، فإنَّ وجهة نظر الطَّبقة الحاكمة، كذلك، هي على القدْر ذاته من الأهميَّة.