ترجمة الحدث- رولا سرحان
كتبت، الباحثة الإسرائيلية، في مجال الهولوكوست اليهودية والفلسفة السياسية، ميشيل أهاروني، مقالاً فكرياً نقدياً، بعنوان:
"?Why Does Hannah Arendt's 'Banality of Evil' Still Anger Israelis"، والذي حاولت من خلاله الإجابة على أسباب استمرارية التعاطي مع المفكرة والفيلسوفة الألمانية اليهودية، حنا أرندت، كشخصية مثيرة للجدل في إسرائيل رغم مرور 60 عامًا تقريبًا على كتابتها عن محاكمة آيخمان.
الترجمة الحرفية للنص:
في عام 1963، كتب الفيلسوف كارل جاسبرس إلى صديقته المقربة حنا أرندت: "سيحين زمن، لن تعيشيه، سيقيم لك فيه اليهود نصباً تذكارياً في إسرائيل، ويدَّعون بأنك منهم." لكن حتى عام 2019، لم يتم تشييد هذا النصب، فبعد مرور حوالي 60 عاماً على محاكمة أدولف أيخمان، ما يزال اسم أرندت يثير انتقادات عديدة في أوساط المثقفين الإسرائيليين.
وعلى الرغم من كون أرندت، واحدة من أعظم مفكري القرن العشرين، وعلى الرغم من أنها كانت من بين الناجين من الهولوكوست ومن الصهيونية (على الأقل لفترة معينة) - فقد جرت مقاطعتها في إسرائيل لسنوات عديدة، ولم يتم ترجمة معظم كتاباتها إلى اللغة العبرية إلا في الآونة الأخيرة.
أرندت، التي توفيت عام 1975، تستفز مشاعر قوية في أذهان الأكاديميين، وخاصة الإسرائيليين، نتيجة لكتابها الذي صدر عام 1963 بعنوان "أيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشر"، والذي ينتقد طريقة إسرائيل في محاكمة أيخمان وطريقة تصوير المتهم.
فبدلاً من الوحوش القاتلة، وتلك المعادية للسامية التي سعى الادعاء إلى رسمها عن المتهم، رأت أرندت شيئًا مختلفًا تمامًا: نوع جديد من القتل الجماعي، ولكن دون دوافع ضارة أو قاتلة بالضرورة، من قبل (أيخمان) الذي يمثل أولئك الذين لا يفكرون في أهمية أفعالهم أو قبول المسؤولية عنها. ونسبت إلى أيخمان ما وصفته "بعدم التفكير" ، وعدم القدرة على التفكير من وجهة نظر الآخر.
أثار كتابها على الفور جدلاً مريرًا استمر طوال الستينيات. تم شجب رأي أرندت، بما في ذلك من قبل بعض أصدقائها المقربين، واعتبرت معادية للصهيونية وتم اعتبارها مثالاً على "الكراهية الذاتية لليهود". واتُهمت بأنها تميل بشكل إيجابي تجاه أيخمان وتعفيه من الذنب والمسؤولية عن جرائمه. كتب لها صديقها عالم (القابلاه) غيرشوم شوليم، أنها تفتقر إلى "حب الشعب اليهودي". ومن ثم قطعت العلاقات بينهما في أعقاب ردها على رسالته.
لعقود طويلة، تم نبذ أرندت بشكل غير رسمي في إسرائيل. لم تتم ترجمة كتبها إلى العبرية ولم تتم مناقشة أعمالها، سواء في المجال الأكاديمي أو العام. لقد تعرضت فعليًا إلى الطرد السياسي الفكري. لم يتم نشر "أيخمان في القدس" أو إتاحة الفرصة للجمهور الذي يقرأ العبرية للحكم على النص بنفسه إلا عام 2000.
في الآونة الأخيرة، بدأ وضع أرندت في إسرائيل يتغير. رغم أن النقد الشديد ما يزال موجهاً إليها، على مدار العقدين الماضيين، كانت هناك عملية جارية تعكس مقاربات جديدة لفكرها، فهي لم تعد محرمة: كتاباتها هي موضوع دراسة نقدية بطريقة إيجابية أكثر من قبل أكاديميين إسرائيليين، من بينهم عودي أوفير وميشال بن نفتالي وليورا بيلسكي.
أحد الأسباب لدمجها التدريجي في الخطاب العام هو هيمنة خطاب ما بعد الصهيونية وما بعد الحداثة في الأوساط الأكاديمية التي بدأت في التسعينيات. عُقد أول مؤتمر دولي حول أرندت في إسرائيل عام 1997 في القدس، بمحاضرات صدرت في وقت لاحق كمجموعة من المقالات (باللغة الإنجليزية)، والتي كتبت بشكل أساسي من قبل أكاديميين من الخارج، وحررها المؤرخ البروفيسور ستيفن أشهايم.
قامت المؤرخة إديث زرتال بخطوة ملحوظة في إدخال أرندت في الخطاب الإسرائيلي. بحثت عن أفكار أرندت والخلافات المحيطة بها، وبدأت في التسعينات بنشر مقالات حول هذه الموضوعات في المجلات والصحف الإسرائيلية. ناقشت زرتال أيضًا أرندت باستفاضة في كتابها المعنون "محرقة إسرائيل وسياسة الأمة" (الذي نُشر بالإنجليزية في عام 2005) ، والذي تناول سياسات ذاكرة الهولوكوست. في عام 2004، وفي أعقاب أول مؤتمر باللغة العبرية حول أرندت، عُقد في جامعة تل أبيب، ظهرت أيضًا أول مجموعة من المقالات باللغة العبرية. في عام 2010، نُشرت ترجمة زيرتال العبرية لعمل آرندت الأبرز "أسس التوتاليتارية" (أو أصول الشمولية).
استمر عصر الصحوة بأعمال أرندت (في إسرائيل) بترجمة كتب إضافية لها إلى اللغة العبرية، من بينها "الوضع البشري" و "الكتابات اليهودية". في العقد الماضي، قدمت الجامعات المحلية مساقات أكاديمية حول أرندت، وتم عرض مسرحية عن حياتها وكانت موضوع فيلم وثائقي إسرائيلي.
تحدت أرندت، وما زالت، الإجماع اليهودي والصهيوني. كما أن الثورة المفاهيمية التي أثارتها مع مصطلح "تفاهة الشر" وأهميتها بعد مرور 56 عامًا على رؤيتها لأول مرة في ضوء النهار، تظل صعبة البلع حتى في عالمنا اليوم. ما الذي يدور حول هذا المفهوم حتى الآن لإثارة هذا القلق العميق بين المثقفين الإسرائيليين؟
كانت أرندت من بين الناجين من الهولوكوست بكل معنى الكلمة، حتى لو لم تعرّف نفسها على هذا النحو. ولدت في عام 1906 لعائلة يهودية مندمجة في ألمانيا، ودرست الفلسفة منذ سن مبكرة. كانت تلميذة مارتن هايدغر وكتبت أطروحة الدكتوراه في جامعة هايدلبرغ تحت إشراف كارل جاسبرز. في عام 1933 تم اعتقالها من قبل الجستابو بسبب مشاركتها في نشاط صهيوني، وتم إطلاق سراحها بعد أسبوع من قبل ضابط شاب صديق لها. نجحت في الفرار مع والدتها ووصلت إلى باريس، حيث قضت ثمانية أعوام كلاجئة. عملت أيضًا لحساب Youth Aliyah ** حيث ساعدت مجموعات من الأطفال والمراهقين للهجرة إلى فلسطين. بعد احتلال فرنسا، تم القبض على أرندت وسجنت في معسكر غورس في جنوب غرب البلاد، لكنها تمكنت من الفرار في غضون بضعة أسابيع.
في عام 1941، فرت أرندت وزوجها، هاينريش بلوشر، إلى الولايات المتحدة، إثر حصولهما على تأشيرات لجوء، عبر لشبونة. أصبحت مواطنة أمريكية في عام 1951 وعاشت في البلاد، وتابعت مسيرتها الأكاديمية المتميزة، حتى وفاتها عام 1975.
تجربة أرندت الطويلة كلاجئة لعبت دورا هاماً نحو تشكيل فكرها السياسي. تماماً مثلما لعبت ديانتها اليهودية ونهجها في المسألة اليهودية أيضًا الدور نفسه. تبنت أرندت نهج تقارب مع الصهيونية، على الرغم من أنها كانت تنتقد الأيديولوجية الصهيونية وكانت تخضع للرقابة على نحو متزايد فيما يتعلق بإسرائيل.
رغم سيرتها الذاتية، لماذا أثار كتابها هذا الجدل العاصف؟ تكمن الإجابة، جزئياً، في نقدها للطبيعة السياسية لمحاكمة أيخمان. فقد رأت أرندت أن المحاكمة كانت صورية - حدثا سياسيا له جدول أعمال محدد. لقد ناقشت حقيقة أن غالبية الشهادات ليست ذات صلة بإثبات ذنب المدعى عليه. واعترضت أيضًا على تركيز النيابة على الفئة القانونية "للجريمة ضد الشعب اليهودي"، والتي تهدف إلى الترويج لرواية صهيونية تاريخية صورت فيها الهوبوكست على أنها حلقة أخرى ضمن سلسلة طويلة من اضطهاد اليهود. وقالت إن هذا النهج يشهد على حقيقة أن المحكمة لم تدرك تمامًا تفرد أوشفيتز. في تصورها، كانت جرائم النازيين غير مسبوقة وتشكل "جرائم ضد الإنسانية".
ومع ذلك، فإن مصدر معظم الغضب ضدها يكمن في مكان آخر. ما أدى لمقاطعتها في إسرائيل هو تفسيرها لآيخمان وتوصيفها لضحايا الهولوكوست.
اعترضت أرندت على تصوير الادعاء لإيخمان على أنه كان يسترشد بأيديولوجية عنصرية قاتلة. لقد قدمت تفسيراً بديلاً: أيخمان بصفته بيروقراطيا ينخرط في النهوض بحياته المهنية متجنباً مواجهة عواقب أفعاله. فكرت أرندت في الظهور المحتمل لـ "قاتل مكتبي" يرتكب جرائمه المروعة عن بعد، ولا يقوم بعملية القتل الفعلي بنفسه، بل يعتبر نفسه مواطناً ملتزماً بالقانون يطيع أوامر رؤسائه. كان هذا هو السياق الذي صاغت فيه مفهومها المثير للجدل والذي أسيء فهمه على نطاق واسع حول "تفاهة الشر".
وعلى الرغم من أن كتاب أرندت كان يحمل عنوان "تقرير عن تفاهة الشر"، فإن المصطلح نفسه يظهر مرة واحدة فقط في النص، في نهايته تقريباً. وقد تعرض لتفاسير لا نهاية لها. أحد أسباب الحيرة الأولية هو أن أرندت لم تشرح المصطلح في الطبعة الأولى من الكتاب. فعلت ذلك فقط في إحدى الحواشي التي ظهرت في نسخة منقحة وموسعة نُشرت في عام 1965. وتُلقي إشاراتها اللاحقة إلى المصطلح ومراسلاتها الشخصية مع الأصدقاء بمزيد من الضوء على ما تعنيه.
أوضحت أرندت أنها لم تحاول في الكتاب توضيح نظرية شاملة لجوهر الشر، بل تهدف إلى الإشارة إلى ظاهرة لاحظتها أثناء المحاكمة. من خلال "تفاهة الشر" ، كان في ذهن أرندت فكرتان مترابطتان. الأولى هي أن أيخمان لم يكن شخصية شيطانية، أو معادية للسامية. لقد كان شخصا عاديا. لم يكن لديه أية دوافع لأفعاله بخلاف تعزيز تقدمه. أفعاله كانت وحشية، ولكن الرجل نفسه كان عاديا.
يشير مفهوم "تفاهة الشر" إلى التناقض الناشئ عن المجتمع الشمولي، حيث يتم تنفيذ جريمة غير مسبوقة على النحو الأمثل بواسطة جهاز بيروقراطي عادي؛ إنه يشير إلى التباين بين الأبعاد الشاسعة للجريمة والشخصية غير الاستثنائية للجاني. لقد تحدى هذا التقليد اللاهوتي والفلسفي والأخلاقي والقانوني الطويل، الذي امتد من أوغسطين إلى كانط، والذي أكد أن أعمال الشر يجب أن تكون بالضرورة مظهرًا من مظاهر النوايا الشريرة، وأن درجة الشر التي تجد التعبير عنها في الجرائم يجب أن تكون متوافقة مع مستوى خباثة الدوافع.
العنصر الثاني الذي تصورته أرندت في أيخمان كان "عدم التفكير"، وهي سمة عرفتها بأنها "عجز كلي تقريبًا عن النظر إلى أي شيء من وجهة نظر زميل آخر". لكن هذا لم يعفه من مسؤولية أفعاله. كان الدرس الذي يجب تعلمه من تجربة أيخمان، في نظرها، هو أن هذا النوع من الطغيان، الذي "لا يتطابق بأي حال من الأحوال مع الغباء"، يمكن أن "يُحدث المزيد من الخراب أكثر من كل الغرائز الشريرة مجتمعة والتي ربما تكون متلازمة في حجتها. كانت حجتها الأساسية هي أنه في الأجواء السائدة في ألمانيا النازية، لا يمكن لأيخمان التمييز بين الخير والشر. وصفته أرندت بأنه "نوع جديد من المجرمين" ، الذي يرتكب جرائمه "في ظل ظروف تجعل من المستحيل معرفته أو شعوره بأنه يخطئ".
ما يصعب قبوله في فرضية أرندت حول "تفاهة الشر" - وما أدى إلى معارضة الكتاب في إسرائيل- هو أنها كانت تفترض هنا نوعًا جديدًا من الضمير. على عكس الحكم الصادر في المحاكمة، لم تعتقد أرندت أن أيخمان كان بحاجة إلى "إغلاق أذنيه عن صوت الضمير" ، أو أنه كان يفتقر إلى الضمير تمامًا، ولكن صوت الضمير للمجتمع الألماني "المحترم" لا يخبره بأن عليه أن يشعر بالذنب لأفعاله.
في حين يفترض القانون في الدول المستنيرة أن صوت الضمير يخبر الجميع، "أنت لن تقتل" ، فإن القانون في عهد هتلر يتطلب من صوت الضمير أن يخبر الجميع، "يجب أن تقتل". في الواقع، كان أحد مزاعم أيخمان في المحاكمة، كما تقول أرندت، "أنه لم تكن هناك أصوات من الخارج لإثارة ضميره".
سبب إضافي للحقد الموجه إلى أرندت هو انتقاداتها المتعلقة بصورة ضحايا الهولوكوست. اعترضت على التهرب المنهجي من الادعاء بعدم تعاون زعماء المجالس اليهودية مع النازيين، فأحد أصعب الادعاءات التي يمكن قبولها في هذا الكتاب هو أنه إذا كان اليهود أقل تنظيماً، وإذا لم يكن لديهم قيادة، فلن يصل العدد الإجمالي للضحايا إلى الأرقام التي وصلت إليها.
"بالنسبة لليهودي"، تؤكد أرندت، " أن هذا الدور للزعماء اليهود في تدمير شعبهم هو بلا شك أحلك فصل في القصة المظلمة بأكملها."هذا الادعاء الافتراضي هو بالطبع تكهنات غير قابلة للإثبات من قبل أرندت.
لقد فهم بعض منتقدي أرندت مصطلح "تفاهة الشر" على أنه وصف للجرائم ذاتها. ومن خلال هذا التفكير، إذا كانت جرائم النازيين تافهة، فهذا يعني أنه بالإمكان الصفح عنها. فسر آخرون تعليقاتها حول مسؤولية الزعماء اليهود على أنها مثال كلاسيكي لإلقاء اللوم على الضحية. رأت كلتا المجموعتين أن كتابها يمثل طمسًا خطيرًا للحدود التي يمكن أن تؤدي إلى العدمية الأخلاقية. وما زالت تلك التعبيرات عن هذا النوع من الانتقادات التي أثيرت فور نشر الكتاب مستمرة.
تؤكد المؤرخة الإسرائيلية أنيتا شابيرا، على سبيل المثال، أن نهج أرندت النقدي يعكس الغموض الأخلاقي، وهذا ما جعلها مفضلة لدى ما بعد الحداثة. "لا يوجد شيء على ما يبدو". لا توجد حقيقة ولا أكاذيب ولا ضحية ولا قاتل. كتب شابيرا في مقال عام 2004 ، "محاكمة أيخمان: تغيير المنظور" ، لا أحد مذنب، لا أحد بريء، ولا يوجد تسلسل هرمي للقيم، ولا قيمة مطلقة.
أكد أليحنان ياكيرا، الرئيس السابق لقسم الفلسفة في الجامعة العبرية، في كتابه "ما بعد الصهيونية ، ما بعد الهولوكوست" (المنشور باللغة الإنجليزية في عام 2009) أن كتاب "أيخمان في القدس" ليس أسوأ كتب أرندت فحسب ، بل إنه أيضًا "فضيحة أخلاقية" وفشل فلسفي وأخلاقي. وفي مقال لاحق، أوضح أن محاولته لفضح الفشل الفكري للكتاب هي جزء من جهد واسع لفضح الفشل الأخلاقي لنقاد الصهيونية اليوم، الذين يطعنون في إسرائيل عبر "الاستخدام المنهجي للمحرقة كسلاح أيديولوجي"..
أحد الأخطاء الفادحة في كتاب ياكيرا هو ادعاؤه أن أرندت تورطت في "فعل قمع" في مواجهة جرائم النازيين. وتؤكد أرندت أنها بالكاد تُشيرُ إلى الإبادة نفسها. صحيح أن نظرية أرندت الشمولية ركزت أكثر على معسكرات الاعتقال وبدرجة أقل على معسكرات الموت، لكن هذا لا ينبع بأي حال من "قمع" الجرائم. هزت فظائع أوشفيتز كل خلاياها، وعملية الإبادة موجودة في كتابها عن أيخمان بل وتوجه تفكيرها.
أحد المؤلفين الذين ذهبوا إلى أبعد من ذلك بكثير هي تسفيا جرينفيلد، وهي صحفية حريدية (وعضو الكنيست لفترة قصيرة في ميرتس). في كتابها باللغة العبرية 2017 "الانهيار: تفكك اليسار السياسي في إسرائيل" ، تكرر نفس الاتهامات التي لا أساس لها ضد أرندت والتي تم التعبير عنها قبل 50 عامًا. تكرر مرارًا وتكرارًا أنه وفقًا لأرندت، "على وجه التحديد، فإن اليهود أنفسهم هم الذين تسببوا فعليًا في كارثة الإبادة" من خلال تعاون زعماء المجالس اليهودية مع النازيين.
على الرغم من أن أرندت لا ترى نفسها على أنها تنتمي إلى أي مجموعة سياسية، وحتى لو كان من الصعب وصفها بأنها "يسار" أو "يمين" ، فإن كتاباتها النقدية توقعت بعض القضايا المركزية التي ظهرت بعد سنوات في الدراسات التي أجراها "مؤرخون جدد" و "ما بعد صهيونيين". في مقالات سابقة في الأربعينيات من القرن الماضي، كانت أرندت تنتقد الدولة القومية اليهودية، وتدعم الأطر السياسية ثنائية القومية والمتعددة الجنسيات، وحذرت من التهديد الذي يتعرض له السكان العرب في فلسطين. في كتابها عن ايخمان، عارضت ما اعتبرته استغلال المشروع الصهيوني لذكرى الهولوكوست. تطرقت أرندت إلى الأمور الحساسة التي مازالت تثير الجدل.
في عام 1948، في ذروة حرب الاستقلال الإسرائيلية، وقبل فترة طويلة من صدور قانون الدولة القومية وقبل عرض خطط أوشفيتز بيركيناو في الجمعية العامة للأمم المتحدة، كتبت أرندت ما يلي في مقال بعنوان "إنقاذ الوطن اليهودي": "حتى لو انتصر اليهود في الحرب، في النهاية ستدمر الاحتمالات والإنجازات الفريدة للصهيونية في فلسطين. ستكون الدولة المراد تحقيقها مختلفة تماما عما رآه يهود العالم والصهاينة وغير الصهاينة في أحلامهم. سيعيش اليهود المنتصرون محاطين بسكان عرب معادين تماما، وسيحبسون داخل حدود مهددة دائما، منغمسين في الدفاع الجسدي عن النفس لدرجة أنه سيلقي بظلاله على جميع الأنشطة والاهتمامات الأخرى. وسيقتصر تطور الثقافة اليهودية على فئة معينة وليس الشعب بأسره، سيتم التخلي عن التجريب الاجتماعي لأنه عبارة عن كماليات غير عملية، وسيتم تحويل الفكر السياسي إلى استراتيجية عسكرية، وستحدث التنمية الاقتصادية فقط وفقا لاحتياجات الحرب ".
يتناول كتاب زيرتال لعام 2018 "الرفض: اعتراض ضميري في إسرائيل" (باللغة العبرية)، قضية الشر السياسي وإمكانيات الانتقام منه، والخلفية الفكرية والسياسية والتاريخية للاستنكاف الضميري من الخدمة العسكرية في إسرائيل، لا سيما فيما يتعلق بالاحتلال. "ايخمان في القدس" هو نقطة انطلاق الكتاب. تُظهر زيرتال كيف أن أفكار أرندت، بما في ذلك "تفاهة الشر" ، "التي تم رفضها وقمعها لسنوات، موجودة في تفكير الشباب الإسرائيلي وتؤثر على خياراتهم وقراراتهم" أثناء خدمتهم في الجيش وما بعده. يحتوي الكتاب على مقابلات مع جنود من مختلف الرتب، من ضباط الاحتياط إلى المدير السابق لأجهزة الأمن في شين بيت، عامي أيالون، والذين يتحدثون عن كيف أصبحوا موظفين لم يؤدوا إلا واجباتهم في العمليات التنفيذية، في عالم ضيق لم يترك لهم في مجال كبير للتفكير.
تقول زيرتال عن أرندت: "إنها بلا شك واحدة من أعظم المفكرين والأكثر نفوذاً في القرن العشرين وقد اختارت بوعي ألا تكون فيلسوفة بمعنى التفكير والتفكير بمعزل عن العالم، لكنها رأت نفسها كمفكرة سياسية تستقي فلسفتها من تجارب الحياة. لقد جربت كل ذلك مباشرة: الحروب العالمية، النازية، الهولوكوست، الشمولية، الثورات، ما بعد الاستعمار، اللاجئون والهجرة. نادرون هم المفكرون الذين أدخلوا في عملهم الكثير من القضايا الحرجة لفك رموز العالم، وفعلوا ذلك بشغف فكري وتألق وبشجاعة لا تقاوم مثل أرندت."
"سألت بن نافتالي عما تعتقد أنه يجعل أرندت فريدة من نوعها، فأجابت بأنها انجذبت إلى فكرها "بسبب شجاعتها وبسبب جهودها لحل الكليشيهات وقواعد الفكر بحيادية." وفقًا لما قاله بن نفتالي، فإن "كتابة أرندت مستنيرة بالتعقيد الهائل. يبدو لي أن الكثير من الناس لا يستطيعون تحمل التعقيد في السياقات التي يعتبرونها "متقلبة". هذا الاتجاه يجعل العديد من النقاشات حول القضايا العامة سطحية وغير ضرورية، وليس فقط في هذا السياق.
"بمعنى ما، عرفت أرندت ذلك. لقد أدركت أنها تهدف إلى تحقيق ما لا يطاق، وأنها تتصرف ببساطة دون لبس، وهي تتناول الأشياء التي لم تنضج بعد لتتطرق إليها. لا يوجد الكثير من الأشخاص القادرين على القيام بذلك ودفع الثمن الذي قامت به. بطريقة ما، كان الكتاب مستهدفًا، بالفعل عند نشره، من وجهة النظر هذه، ما زالت كتابة أرندت تنتظرنا في السنوات القادمة. "
* الدكتور ميشال أهاروني باحثة في الهولوكوست والفلسفة السياسية، ومؤلفة كتاب "حنا أرندت وحدود الهيمنة الكاملة: المحرقة والتعددية والمقاومة" (روتليدج ، 2015).
** هي منظمة يهودية عملت على إنقاذ آلاف الأطفال اليهود في ألمانيا من الهولوكوست، وعملت على إرسالهم إلى فلسطين للعيش والتعلم في "الكيبوتس".