وزير التعليم الجديد يريد بطبيعة الحال، مثلما أراد أسلافه أن يطور التفكير والإبداع وتنمية "كل ما يلزم" من أجل "فعل كل ما يجب" مما يودي إلى أن "تنحل المشاكل كلها" ثم نقلع عن قريب جدا باتجاه سنغافورة، وتايوان، والصين، ونجتاز اليابان في الطريق إلى عوالم مجهولة لذيذة وسحرية بطقوسها التي تمزج العلم بالتقنية بالأسطورة.
عموما، لم يكن المجتمع الفلسطيني في حاجة إلى أي اتجاهات إبداعية جديدة من أجل أن يعمق معرفته "العميقة" أصلا بأصول لعبة التفكير، وشروط الممارسة العلمية.
في هذه العجالة نعرض معنى "التفكير" كما يراه أهل بلادنا، ونعتمد في ذلك على دراسة صغيرة كنا قد قمنا بها لهذه الغاية عن طريق التواصل مع مجموعات من أهالي الطلبة في عدد من مدارس رام الله، الوكالة والحكومة والخاصة.
حاولنا في هذا السياق أن نستطلع معنى كلمة التفكير بالنسبة للمشاركات والمشاركين، ومن ثم سؤالهم عن رأيهم في مدى حضور ممارسات تعليم مهارات التفكير في المدارس. وقد لاحظنا إجمالاً نقصاً واضحاً في فهم المصطلح، ومن ثم جاءت الإجابات في غالبيتها تنفي وجود تفكير في المدارس، ولكن دون أن يكون نفيها معبراً بالفعل عن نفي وجود ظاهرة التفكير ذاتها. وفي حالات معينة عبرت وجهات النظر عن نفي شيء آخر من قبيل الفهم، أو حتى الحفظ، بينما في حالات أخرى كانت نفياً خالصاً للكلمة دون أية إشارة تسمح لنا بتقدير ماهية الشيء المنفي. وقد عبرت مجمل المشاركات عن عدم وضوح مفهوم التفكير والتباسه بأنشطة ذهنية أخرى من قبل الحفظ أو الاستيعاب.
يرى العديد من الأهالي حايا أن الفيس بوك والتكنولوجيا يتحملان قسطا وافرا من اللوم، لكن ذلك يمتزج بوصف مثل هذا: "ما في تفكير. هناك صعوبة في الكتابة، لأننا تعودنا التلقين. لا يمارس الأطفال القراءة. كل الأطفال قاعدين على الإنترنت يرسلون الرسائل. التكنولوجيا تعيق تطوير التفكير. عندما يصل الطفل الصف السابع يتجه نحو الملهيات. ابني يدرس من أجل العلامة فقط. والمشكلة انو كله حفظ."
حاولنا مساعدة الآباء والأمهات على الاقتراب من مفهوم عمليات التفكير بسؤالهم: "ما الذي يمكن أن يأخذه الطفل ولا ينساه، بل يتحول إلى جزء من بنيته المعرفية الدائمة؟" على أمل أن يقودهم ذلك إلى طرح موضوع مهارات التفكير، ولكنهم واصلوا الحديث في سياق تعقيباتهم على السؤال حول طرق ترسيخ المعلومات، وتسهيل مهمة حفظها.
عندما تم طرح السؤال مباشرة حول ماهية التفكير جاءت الإجابات عموماً متعثرة وغير قادرة على الإشارة بوضوح إلى المفهوم. مثلاً قالت إحدى المشاركات: "التفكير شي ما حدا بعرف شو هو." وقال مشارك آخر:"ربنا أعطانا حسنات على التفكير. لازم نشغل مخنا، مثلاً هذي قنية من ايش مصنوعة؟ من بلاستيك." وقد ركزت مساهمة مشارك ثالث على المعلومة: "لازم أعطي الفرصة للطفل أن يفكر ويتوصل إلى الإجابة، ولا بد من البحث عن أساس المعلومة." وقد لفت نظرنا أن إحدى المشاركات قد ذهبت باتجاه أن التفكير "إلهام أو مشاعر" وربما يحيل هذا إلى الاستخدام العامي الفلسطيني لكلمة "الفكر" بمعنى انشغال الذهن في أمور محزنة، من قبيل: "هدها الفكر من يوم موت ابنها." أما أفضل المشاركات فقد ذهبت إلى تعريف التفكير بأنه "قدرات عقلية وذهنية موجودة، ولكن لازم ننميها. بدي أحاول أخترع، لازم نفكر."
أما سؤال كيف يظهر التفكير في سياق عملية التعليم، فكانت الإجابات عليه لا تقل حيرة. إحدى المشاركات قدمت فكرة تناقض المفهوم تماما: "التفكير هو تسخير الجهد في تلقين العلم. يعني توصيل المعلومة. بعد الامتحان تذهب المعلومات. فلا بد من طريقة لترسيخ المعلومات. بنتي في أميركا تدرس وحدها في مساق، يعني هي الطالبة الوحيدة، فاتحين صف الها لحالها، عندنا لازم يكون الصف مليان." وفي السياق ذاته قال مشارك آخر إن التفكير ممنوع، لكن دون أن يقول لنا ما هو "التفكير" الممنوع: "احنا عندنا التفكير ممنوع. لا نسمح به. أنت تعرف أن المدرسة فيها قيود. ابنك في البيت ممنوع عليه التفكير. فهي تبدأ من البيت." ليس من الصعب بطبيعة الحال تقدير أن الكلام يدور هنا على منع أفكار معينة أكثر مما هو يدور على مهارات التفكير ذاتها. وذلك لأن المشارك ذاته قدم مثالاً على التفكير "رؤية البراميسيوم بدلاً من القراءة الجافة عنه" أو "إحضار حبة تفاح ليراها الطفل، هذا هو التفكير." وقد ختم المشارك حديثه بالقول "إن التفكير موجود بنسبة خمسين في المائة في هذه المدرسة." لكننا لم نتبين ما هو المقصود بهذه النسبة: إنفاق نصف الوقت في تعليم عمليات التفكير، أو أن نصف عمليات التفكير يتم تغطيتها، أو أن الطلبة يستوعبون التفكير بنسبة النصف ...الخ
بعض الآراء ذهبت إلى أن التفكير هو "محاولة الولد إجابة أي سؤال يسأله المدرس." وفي الاتجاه ذاته ربطت آراء أخرى التفكير بتفاعل الطالب مع المدرس، فهو عندما "يتفاعل مع المدرس بصير يفكر. ولازم يكون في لجنة في المدرسة تسجل إن الأهل بتابعوا ولا ما بتابعوا. لازم يشوفوا الولد تفكيره نقص، ويبلغوا الأهل." في هذا الرأي هناك فكرتان إحداهما تحيل إلى التزام الطالب بواجباته وتعد ذلك انخراطاً في عمليات التفكير، والثانية تقصد بالتفكير، تفكير الطفل في المدرسة والدراسة، اهتمام الطفل والتزامه بما يطلب منه، وعدم انشغاله بأمور أخرى من قبيل اللهو، واللعب مع الأقران. وقد علق مشارك آخر على هذا الكلام بالقول إن ابنه كان في مدرسة خاصة في حال أفضل، تدهور وضعه منذ التحاقه بمدرسة الوكالة، في أثناء وجودة في المدرسة الخاصة، "كان الولد يعود من المدرسة حافظ وفاهم."
من الواضح أن الأهالي يفتقرون إلى المعرفة الدقيقة والواضحة بمعنى كلمة تفكير، ناهيك عن أنواع مهارات التفكير، وفروعها المختلفة. وعلى الرغم من أننا لا نريد هنا مناقشة أية مهارات أو معارف لدى المعلمات والمعلمين والجهاز التربوي عموما، إلا أنه تصادف في أكثر من حالة وجود عدد من المعلمين بين الحضور، وأحياناً مدير المدرسة. أحد مدراء المدارس قدم وجهة نظر عن التفكير لا تختلف كثيراً من حيث ابتعادها عن المفهوم المؤسس في الفكر التربوي عن وجهات نظر الأهالي: "التكنولوجيا تساعد على التفكير، البلدية عاملة مشروع تنظيف من أجل المحافظة على البيئة، الطلاب ببحشوا وبزرعوا وكمان في أنشطة رياضية، وهذا كله عبارة عن تفكير."
أحد المعلمين أدلى بدلوه في الموضوع، وقدم مثالاً على تعليم التفكير في المدرسة فقال: "دخلنا على الأطفال اللي كانوا يضربوا بعض، وقلنا لهم عيب. شايف: علمناهم التفكير. كان الطالب يرمي الورق على الأرض، حكيت معهم عن الورق قلت لهم فكروا في الورق اللي على الأرض، إذا ما رميتوا ورق على الأرض بصير ما في ورق على الأرض. صرت أراقب الولد وين برمي الورقة، وهكذا تعلم التفكير." وأضاف مدير المدرسة: "قلت لازم نلم الأشياء التي تقع على الأرض، وهكذا أعطيت الطالب فرصة للتفكير. وصرنا نشجع الصفوف التي تفكيرها ممتاز، وتتصف بالنظافة بأخذها رحلات."
لعل من المناسب في هذه الأيام أن نختم بأن وزارة التعليم الحالية مثل سابقتها مهتمة دون شك بتطوير مهارات الطلبة والمعلمين في مجالات التفكير المختلفة، وهي بالتأكيد واعية بالغياب شبه التام لأية معرفة تخص مفهوم التفكير وطرق تدريس المهارات المتصلة به. ولا نستطيع مثل المعتاد الذي نتوقع أن يظل هكذا، إلا أن نعطيها فرصة كي تستكمل وضع اللمسات الايديولوجية الضرورية سياسيا، ثم تتفرغ بعد ذلك لمواجهة هموم التعليم الأصعب ومنها معضلات التفكير. لكن يظل السؤال قائما: ترى كم من الوقت ستحتاج الوزارة والوزير من أجل إتمام المهام الايديولوجية كيما تجد الوقت والموارد لقضايا أخرى في حقل التعليم؟