الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

راسم الدائرة لـ عبد الرحيم الشيخ

2019-05-13 07:28:18 PM
راسم الدائرة لـ عبد الرحيم الشيخ
الرئيس محمود عباس في مؤتمر حركة فتح

 

الحدث - فكر ونقد

بعد أكثر من سبعين عاماً على النكبة، تبدو فلسطين أضيق من أي وقت مضى، إذ تقلَّصت الأرض، وزاد شتات الفلسطينيين، وفقدت قيادة الحركة الوطنية بوصلتها السياسية بعد أن وضعت نفسها في دائرة انتظار عبثيٍّ لما سوف يأتي من خارج فلسطين، ابتداءً بكتب البريطانيين البيضاء والسوداء، وانتهاء بصفقات الأمريكيين وصفعاتهم. وقد كُتبت آلاف الصفحات في تفسير تردِّي المشروع الوطني الفلسطيني، بين لومٍ ولوم مضاد، كانت قواسمها المشتركة، منذ بدء المشروع الاستعماري الصهيوني على فلسطين، وحتى اللحظة، هي: وحشية العدو الصهيوني وحاضنته الاستعمارية؛ وتخاذل الرسمية العربية ورجعتيها حدَّ التواطؤ؛ وأزمة القيادة الفلسطينية التي أدمنت الواقعية السياسية حتى تحوَّلت إلى "لعنة" أبرز سماتها إرجاء إعلان الانتحار السياسي، بعد ممارسته، بوصفه "فناً للانتظار"، بل وإعطائه بعداً أكثر جاذبيَّة بوصفه "فلسفة الصبر" كما يفصح وثائقي تبثُّه فضائية فلسطين.  

قد يكون من الصعب على المشتغلين بالتاريخ تفسير سيرورته بمنطق "اللعنة" في المخيال الديني، كفرع من فروع الأدب، ذلك أنَّ النصوص الدينية، وإن لعبت دوراً محورياً في تشكيل التاريخ، إلا إنها تُقرأ، غالباً، كنصوص أدبية للإمتاع والمؤانسة. لكنَّ ذلك لا ينبغي أن يحول دون فهم حكايات العبث، في بعض هذه النصوص، كمؤشرات على ماهية التاريخ، أو على الأقل، كمحاولات لفهمه على نحو أقلَّ دمويَّة، إذ لا ينتهي الانتظار، عادةً، بتدخُّل شخصيٍّ لآلهة السماء، بل يأتي الخلاص على يد وكلاء أرضيين للآلهة، لا يأبهون بالنهايات الدمويَّة ما دامت الغاية هي تحقيق الخلاص للمنتظِرين. إنَّ تفسير التاريخ بما يمكن أن نطلق عليه "نظرية اللعنة" هو تفسير عبثي بحدِّ ذاته، ولكنَّه قد يكون تفسيراً جمالياً لموضوع لا جمال فيه، ذلك أنَّ دائريَّة العبث تكسر خطيَّة التاريخ، وتحيله إلى مصفوفة من الممكنات، بأكثر مما هو دوران لعداد النصر والهزيمة.  

في الحالة الفلسطينية، ورغم وجود ميل دائم لوسم المشروع السياسي لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ومن بعدها السلطة الفلسطينية، بالعلمانية، إلا إن "لاهوت الانتظار" يجعل من هذه القيادة أشبه بمنتظِري مخلِّص ديني، مشيح أو مسيح أو مهدي... لا فرق. لقد شكَّل بقاء القيادة الفلسطينية في دائرة الانتظار نموذجاً فريداً في فشل إدراك حقيقة أن الحلول الآتية من خارج السياق الوطني لا يعوَّل عليها، وغالباً ما تقود إلى طريق مسدود، يسمى، بتلطُّف كبير، "انتحاراً سياسياً".

حين التقى العبث باللعنة، في كثير من المجازات الأدبية الكبرى الدينية والعلمانية، كان للإيرلندي صموئيل بكيت "في انتظار غودو" ريادة لم يدركها بعده أحد. وقد وظَّف الراحل إدوارد سعيد، الذي حظر وزيرُ الثقافة الفلسطيني الأول كتبَه في مطلع أوسلو، مسرحية "بكيت" حتى آخر أيامه في نقد أداء القيادة الفلسطينية. استخدم سعيد المجاز العام لـ"انتظار غودو" في نقد قيادة الرئيس الشهيد ياسر عرفات رغم أنه ثبت، تاريخياً، أنه كان في جعبتها خيارات أخرى غير المفاوضات، ومنتَظَرين غير الأمريكان، كما تبيَّن في انتفاضة الأقصى في العام 2000. ليت الراحلَيْن الكبيرين عاشا ليشهدا هذا التأزم غير المسبوق لعقدة "الانتظار" في مسرحيتنا التي لم تكتمل.

لقد أثقلت القيادة الفلسطينية نفسها بـ"حذاء أوسلو"، فشلَّها تماماً عن الحركة، ولم تستطع نزعه حتى تعفَّنت أقدامها، وفسدت هياكلها، وكرَّست سياسات الصم والبكم والعمى لدى المنتفعين منها، واعتمدت، بصورة كاملة، على الحلول الغيبية التي سيأتي بها "الراعي الأمريكي لعملية السلام" طيلة ربع قرن. لقد كانت مغامرة مملة لم يميزها عن المقامرة، حرفياً، إلا حرف واحد... لكن شجرة أوسلو العارية، إلا من الأوراق المالية ربما، لم تثمر، و"غودو" الأمريكي أتى بنفسه ليمنح منتظِرِيْه حبل المشنقة، ولم يكلِّف نفسه عناء تسليمه لهم، بل سلَّمه لعدوهم الصهيوني، وللمفارقة التاريخية في مسقط رأس إدوارد سعيد: في السفارة الأمريكية في الطالبية، في قدس الفلسطينيين الذين لم تتمكن قيادتهم السياسية، حتى اللحظة، من الإقرار بأنها ارتكبت انتحاراً سياسياً، وبالدفع المسبق، حين حصرت نفسها في دائرة لم تشارك حتى في رسمها... ولم تعد شجرة أوسلو صالحة حتى لانتحار رمزي ينهي حالة الانتظار.

ثمة مجاز آخر يمكن اللجوء إليه لأصْلَنَةِ "نظرية اللعنة"، وهو مجاز تاريخي واقعي بمقدار ما يمكن لمجاز أن يكون واقعياً، وإن لم يكن تأريخه أكثر من نقل بهلواني لنص أدبي، وهو مجاز من فلسطين قبيل ميلاد المسيح. إذ على شهوة من الأنبياء، كثر مدَّعو النُّبوات، ومن جرت على أيديهم الكرامات، أو ما خاله الناس كذلك. وفي وقت لاحق وصف التلمود بشكل خاص، وكتابات بعض المؤرخين غير الثقاة (ومعظمهم كذلك على أية حال) كيوسف بن ميتتياهو المعروف بـ"فلافيوس"، هذه القصص بكثير من التفصيل والتهويل.

ففي آخر الحقبة الحشمونية، راجت قصة "حونيه"-راسم الدائرة، وكان عالماً يهودياً مستجاب الدعاء، جلَّاباً للمطر، إذ في أحد مواسم الجفاف، الذي لم تستجب فيه أدعية الاستسقاء، رسم "حونيه" بعصاه دائرة في التراب، ووقف في مركزها، منذراً الرَّب أنَّه لن يغادرها حتى ينزل المطر. وفور انتهائه من التهديد، غير المعهود، نزل المطر، لكن "حونيه" لم يكن راضياً، فطلب من الرَّب المزيد، وكان مطراً غزيراً؛ فاشتاط غضباً على الرَّب لأنه كان يريد مطراً غزيراً هادئاً، فكان له ذلك. وفيما يُروى، أن هذه الحادثة أفضت إلى زجِّ "حونيه" في عزل ديني أشبه بالحرمان الكنسي، كونه اجترأ على الرب في نظر البعض، وإن كانت مكانته، ومحنته، تؤهلانه لمثل ذلك الاجتراء.

لم تكن تلك الكرامة الوحيدة التي جرت على يدي "حونيه"، مع أنها كانت الأشهر، بل ارتبطت به حكاية أخرى تصوِّر نهايته. فقد مرَّ "حونيه" برجل يزرع شجرة خروب، فاستفسر من الرجل عن المدة التي تستغرقها الشجرة لتثمر، وكان الرد أنها تحتاج سبعين عاماً. تعجَّب "حونيه"، وسأل الزارع إن كان يؤمِّل أن يعيش سبعين عاماً ليأكل منها، فرد أنه إنما يزرعها للأجيال القادمة، على مبدأ "غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون". سخر "حونيه" من فلسفة الصبر لدى الرجل، ثم جلس ليأخذ قسطاً من الراحة، وإذا به يغط في نوم عميق دام سبعين عاماً. وفي غيبته تلك، شكَّلت الصخور والحجارة حوله ما يشبه الخيمة لحمايته. وحين استيقظ "حونيه"، وجد شاباً يقطف ثمار الخروب، فسأله إن كان هو زارع الشجرة، فأجاب الشاب بالنفي، وأن جدَّه، الذي لم يعاصره، هو من زرعها، وأنه أخبر والده أنَّ الشجرة إنما زُرعت لأجله. تساءل "حونيه"، العائد من غيبته الأنطولوجية وغيبوبته الروحية، إن كان في حُلم كأحلام "المزامير" في القدس بعد العودة من السبي، وكيف يمكن لسبعين عاماً أن تمر كالحلم؟ أفصح "حونيه" للناس عن هويته، لكنَّهم لم يصدِّقوا أنه هو ذاته "راسم الدائرة"، فتمنى الموت، وناله.

لقد عاش "حونيه" هذا، في القرن الأول قبل الميلاد، الحقبة التي شهدت انقسامات دينية وسياسية دامية بين الإخوة-الأعداء في الأسرة الحشمونية. وقد كان ذلك بعد أن تزعزع حكمهم إثر انقلاب الأخ الأصغر هيركانوس الثاني على أخيه أرسطوبولوس الثاني، ولاحقه وحاصره في القدس، ومن ثمَّ صار هو ملاحَقَاً من قبل الرومان قبل أن يحتفظ، تحت حكمهم، بسلطة رمزية دون سيادة، أو "سلطة بلا سلطة" بلغة اليوم. في تلك الحقبة، أمسك أنصار الأخ الإنقلابي، خلال حصارهم للقدس براسم الدائرة، وطلبوا منه الدعاء للرَّب أن يتغلبوا على أعدائهم، فما كان من حونيه إلا أن دعا الرَّب ألَّا يستجيب لدعوات الشر من كلا الفريقين، لأنهما من شعبه المختار. وحين علموا بفحوى دعائه، رجموه حتى الموت، وكان موتاً أنطولوجياً بعد غيبته، أكمل موته الروحي بعد غيبوبته.

وسواء قضى "حونيه" بصدمة الواقع بعد سبعين عاماً، أم بالرَّجم خلال صراع الأخوة الأعداء، فإن مقامه (الموجود للمفارقة في صفد، وليس في القدس، وبالتحديد في مستوطنة "حتسور هاغليليت" المقامة على أنقاض قرية مغار الخيط المطهَّرة عرقياً في 2 أيار 1948)، لا يزال شاهداً على لعنة الأعوام السبعين التي يمكن للمؤمنين بالحلول فوق التاريخية، والآتية من خارج الدائرة، أن تشكِّل لهم مشروعاً للخلاص. بعد أكثر من سبعين عاماً على النكبة، لم يعد خروبنا حلواً، ولا "خبزاً للقديسين"، بل صار نهباً لغير زارعيه. وبعد أكثر من سبعين عاماً على النكبة، كذلك، قفز كثيرون إلى الدائرة، وخرج كثيرون منها، ولكن التاريخ، الذي يرصد حركة الداخلين والخارجين، لن يغفر لمن يعتقدون بقدريَّتها... لا علاج للعبث إلا بوقفه، ولا شفاء من لعنة الانتظار في الدائرة، إلا بالقفز خارجها.

عبد الرحيم الشيخ- شاعر وناقد فلسطيني ولد في القدس لعائلة لاجئة من الرملة. يعمل أستاذًا للفلسفة والدراسات الثقافيّة والعربيّة في جامعة بيرزيت. يركز عمله الفكري على سياسات الهوية والقومية وتفسير الروابط العلائقية للسياسات، يعمل في الترجمة وفي نقده الفني يركز على التعبيرات البصريّة للهويّة الفلسطينيّة.