«تلك حكايةُ كعكةِ السّميد يا أمّ سعيد!«
عبدُ الرّحيمِ النّبراوي، ناحلٌ أسمرُ، كان يبولُ في سروالِه الخاكي، بمعدّلِ ثلاثِ مرّاتٍ كلّ أسبوعٍ. وكان الأستاذ عبد يُجلسُه على الكرسيّ، ويطلبُ إليه أن يخلعَ بقيّةَ حذائِه، ثم يطلب منّي ومن أديب، زميلنا الثالث في المقعد، أن نقوم بإمساك يديه، خشيةَ تملّصِه، ثمّ يهوي بالعصا على رجليهِ الصغيرتين العاريتين. وكان الأستاذ عبد يغتاظ من عدمِ بكائِه، مثلنا نحن، إذا ما قوصصنا بـ(فَلَقَة) على أرجلِنا، أو صفعاتٍ خفيفةٍ على مؤخّراتِنا الصغيرة...
عبدُ الرّحيم النّبراوي كان يجلسُ إلى جانبي على المقعدِ المدرسيّ ذاتِه، قبلَ سبعٍ وأربعين سنةً، وكنّا في الصفّ الأولِ الابتدائي (ب).
كنّا كلُّنا فقراءَ، لكن من قال: «إنّه لا طبقيّةَ في الفقر»؟ لقد كنتُ أحسّني من الطبقةِ المتوسّطة، وأرى عنان وبنان، الأخوين التوأمين الأبيضين البضّين، من طبقةِ النّبلاء، لكنّ أحدًا منّا لا يقدر على مجاراةِ عبدِ الرّحيم في بؤسِه: ربّما بحكمِ سُمرةِ بشرتِه، وربّما بحكمِ بنيتِه النّاحلةِ جدًّا، ولكنّ الأرجحَ أنّ الأمرَ عائدٌ إلى كونِه يعيشُ جوارَ سورِ المقبرة، في طرفِ المخيّم...
يومَ السبت، أوّلَ يومِ دراسةٍ في الأسبوعِ، في الحصّةِ الأولى، ولم يكن قد بالَ في سروالِه القصيرِ بعد، سأله الأستاذ ما يضع في كيسِ الورقِ الكبير، فأجاب على استحياء: «كعك سميد».
أنا من طرفي، وبحكمِ الجيرة، كنتُ مستمتعًا برائحة التّمر واليانسون التي تفوح من الكيس منذ جلس عبدالرحيم على المقعد..كان شعورًا مغايرًا لرائحةِ بولِه المعتادة، لا سيّما صبيحة السبت، وقد استبقى عبد الرحيم حبّتين، دسّهما في حقيبتي، وناول الأستاذَ الكيس كلَّه.
«من أين جئتَ بكلِّ هذا الكعكِ يا عبدَ الرّحيم»؟ سأله.
«من المقبرة يا أستاذ» أجاب عبد الرحيم، ثم تابعَ: «لقد جاء زوّارٌ كثرٌ هناك يوم أمس، وقرأتُ كثيرًا من القرآنِ على موتاهم».
لا زلتُ أذكر بحّة صوتِه، إذ طلب الأستاذ منه قراءةَ ما تيسّر على الصفّ..
كعكٌ بالسميد، وصوتُ عبد الرّحيم، مرةً واحدة.. ليس هذا فحسب، بل ورضا الأستاذ طيلةَ ذلك اليوم!
لقد تقْتُ لكعكِ السّميدِ قبل سبعَ عشرةَ سنةً، كما اليوم، فقحمني النّبراوي، ورحتُ أفتّش عن بيتِه، فالمقبرةُ ما زالت صامدةً، برغم الشوارعِ الإسفلتيّة، والعمارات العالية التي طوّقتها..ولقد اهتديتُ إلى عجوزٍ، بدا لي أعمى، يجلسُ قدّام أحد البيوتِ القديمة، هو أبوه، وسألته عن عبد الرحيم، فأمسك بيدي، ووقف متحاملًا عليّ..قال لي: «عبد الرحيم غرق في الغور، أثناء خدمتِه العسكريّة، قبل خمسَ عشرةَ سنة».
«لو لم يمتْ عبدُ الرّحيم، كنت زرتُه أنا وأنت اليوم، لكن اصنعي لي كعكًا بالسميد»