الحدث - إبراهيم أبوصفية
مع ميلاد القمر في السماء وانبلاج فجر شهر رمضان، يزف الفلسطينيون أنفسهم إلى القدس، شادين رحالهم إلى المسجد الأقصى المبارك، ويعلن البعض اعتكافه طوال هذا الشهر في جو روحاني، إلا أن الوضع السياسي يطغى عليه ليصبح الهدف مزدوجا أي يعزز من وجوده في القدس في رسالة موجهة للاحتلال، أن معالم المدينة وأجوائها مقدسية فلسطينية عربية إسلامية بامتياز.
ويجسد المقدسيون في شهر رمضان كما كل عام، واقعا فلسطينيا من خلال الفعاليات والأنشطة التي تؤكد على أن المشهد في المدينة فلسطيني رغم كل إجراءات الاحتلال الهادفة لتغيير معالمها.
ومن أبرز هذه الأنشطة؛ يبدأ تجار القدس، في أسواقها التاريخية: خان الزيت، القطانين، العطّارين، الواد، السلسلة، اللّحامين، التحضير لشهر الصيام وتعبئة محلاتهم بالسلع الأكثر طلباً من قبل المواطنين، إذ يشكل هذا الشهر ازدهارا في الاقتصاد المقدسي الذي يعاني حالة من الركود بسبب سياسات الاحتلال الطاردة. وكذلك النشاط الدائم في ساحات المدينة من إفطارات جماعية ومهرجانات مقدسية ومسارات ليلية للتعرف على معالم وآثار المدينة العربية والإسلامية، حيث تصبح العلاقة اتحادا بين الشخص وكل ركن وزاوية وحجر في القدس والأقصى تحديدا.
يقول تميم البرغوثي في قصيدة " في القدس":
القدس تعرف نفسها، إسأل هناك الخلق يدْلُلْكَ الجميعُ
فكلُّ شيء في المدينةِ ذو لسانٍ، حين تَسأَلُهُ، يُبينْ
في القدس يزدادُ الهلالُ تقوساً مثلَ الجنينْ حَدْباً على أشباهه فوقَ القبابِ
تَطَوَّرَتْ ما بَيْنَهم عَبْرَ السنينَ عِلاقةُ الأَبِ بالبَنينْ
في القدس أبنيةٌ حجارتُها اقتباساتٌ من الإنجيلِ والقرآنْ
في القدس تعريفُ الجمالِ مُثَمَّنُ الأضلاعِ أزرقُ، فَوْقَهُ، يا دامَ عِزُّكَ، قُبَّةٌ ذَهَبِيَّةٌ
يلخص تميم في هذه الأبيات وصفه للقدس، ويصور العلاقة الترابطية بين الفلسطيني وبين كل ما هو موجود داخل أسوار المدينة، كما أنه يعقب في سريان القصيدة عن وجه الاحتلال القبيح، الذي يواجهه الفلسطيني بصلابة وعيه وتحديه الدائم في زيارة المدينة، حيث أن هذه الزيارات تجسد فلسطينية المدينة وتحارب تهويدها، و تشكل صدمة مستمرة " للإسرائيلي" الذي يراهن على فقدان الصلة بين الفلسطينيين وأصلانيتهم، إلا أن العلاقة طردية أي كلما زادت حدة تهويده ومحاصرته للمدينة كلما تعلق الفلسطيني واستغل الفرص ليثبت أن المدينة لم ولن تتغير.
يقول "ديفيد بن غوريون" أول رئيس وزراء للاحتلال: إن "لا قيمة لليهود بدون إسرائيل، ولا قيمة لإسرائيل بدون القدس، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل"، هذه النظرية الثلاثية التي تعتبر لبّ المشروع الصهيوني، لذلك فإن أي خلخلة في أحد أعمدة هذه الثلاثية يبقي هذا المشروع "إسرائيل" في حالة من الفشل وعدم الاستقرار، وعليه فالإسرائيليين يحاولون بشكل دائم فرض معادلات جديدة في طمس معالم الهويَّة الإسلامية والعربية والفلسطينية للقدس، إلا أنها تفشل مع أول يوم من دخول شهر رمضان لما يشكله هذا الشهر من تحد واضح لـ "إسرائيل".
ويقول الخبير في شؤون مدينة القدس الأكاديمي جمال عمرو، إن الاحتلال يعمل طوال العام على تهويد وتغيير معالم المدينة ومحاصرتها، ويحاول خلق فجوة بين الفلسطينيين ومدينتهم المقدسة، و وترسيخ مفاهيم إعلامية تهويدية، إلا أن شهر رمضان ينسف هذه الأعمال ويجسد العلاقة العميقة بين الشعب الفلسطيني بل والمسلمين في كل أماكن تواجدهم بالقدس والمسجد الأقصى.
وأوضح عمرو لـ "الحدث"، أن الاحتلال يدرك جيدا أن شهر رمضان الذي تتجسد فيه العلاقة مع القدس واقعا، هو استفتاء الفلسطينيين عن عدم تخليهم عنها، بل والزحف إليها، لذلك هو يعتبر تحديا أساسيا في الوعي الصهيوني الذي يهدف إلى تهويد القدس وتحويل الأقصى إلى "الهيكل المزعوم"، وفي المقابل يفشل الاحتلال بجمع أعداد قليلة من اليهود للدخول للأقصى أو حتى البلدة القديمة في أيام تعتبر مقدسة بالنسبة لهم.
وبين أن شهر رمضان هو شهر الفتوحات والحروب التي انتصر فيها المسلمون منذ نشأة الإسلام وصولا إلى يومنا هذا، مشيرا إلى أن الانتصار الذي حققه الجيش المصري في 6/أكتوبر في رمضان؛ أعطى صورة عن طبيعة هذا الشهر وارتباطه بالانتصارات، لذلك يدرك الاحتلال أن هذا الشهر شهر الوعي والإدراك لدى الفلسطينيين، مما يبقيه متخوفا من فكرة إعادة هيكلة الوعي الجمعي والتحرر من نيله.
وأشار إلى أن هذا الشهر هو شهر تشد فيه الرحال إلى المسجد الأقصى، الأمر الذي يرسخ معاني التمسك وبل وتبني معاني الجهاد من خلال الشعور بالألم الذي تركه الاحتلال وصد اعتداءاته.
وأضاف عمرو، أن "إسرائيل" فشلت في إقناع العالم بأن أرض فلسطين أرض بلا شعب، وقد تبين ذلك للعالم أن هناك فلسطينيين يقبعون بأرضهم والأن يتحمل الاحتلال عبء كذب الرواية الإسرائيلية، لذلك لن يتماشى مع الرواية التوراتية فيما يخص جبل الهيكل، وخصوصا أن علاقة المسلمين بالأقصى وطيدة وهو آية مجسدة في نصف القرآن، والعالم يشاهد كيف يسير الفلسطينيون إلى مدينتهم المقدسة بهذا الشهر. لذلك كان دائما عند الحديث عن حلول السلام يتجنب الحديث عن القدس أو وضعها تحت "الإدارة الدولية".
وأكد على أن القدس والمسجد الأقصى هي نقطة الاتفاق بين الفلسطينيين أنفسهم وبين المسلمين كذلك، وهي الرافعة لأي فعل ثوري لاعتبارها عامود الخيمة، كما وأن شهر رمضان تسموا فيه علاقة الوحدة من خلال العبادات التي تجسد الإحساس والشعور بالغير. لذلك يساهم في تعزيز الصمود وشحذ همم الناس ووعيهم في قضيتهم.
بدوره، قال الإعلامي والناشط المقدسي عنان نجيب، إن شهر رمضان في مدينة القدس يعتبر متنفسا للمسجد الأقصى، حيث يتضاعف عدد المصلين والمعتكفين في ساحاته. مضيفا أن هذا الشهر يُبهج قلوب الوافدين للقدس.
وأوضح نجيب لـ "الحدث" أن أهم ما يميز شهر رمضان في مدينة القدس المحتلة هو صلاة التراويح، والتي تجسد الحالة الشعبية الرافضة للاحتلال، ويستطيع من خلالها إيصال رسالة المسجد الأقصى والقدس بل وإحداث حدث دراماتيكي لما تشكله من حالة حشد حقيقية سامية بالمعاني الإيمانية.
وأشار إلى أن هناك محاولات تقوم بها بلدية الاحتلال من فعاليات وأنشطة لإبقاء القدس تحت سيادتها، إلا أن المقدسيين يرفضون ويقاطعون هذه الأنشطة بل ويحاربونها. مبينا أن المقدسيين تحدوا الاحتلال وسبل فرض سيادته، من خلال رفضهم التعاون مع بلدية الاحتلال في تزيين البلدة القديمة مثلا، حيث زين المقدسيين حاراتهم وبيوتهم دون تنسيق مع دوائر الاحتلال.
ولفت إلى أن شهر رمضان تنشط فيه الفعاليات الشعبية والفنية الهادفة مثل إضاءة أكبر فانوس رمضاني في فلسطين. إضافة إلى الجولات السياحية لمن هم قادمون من خارج المدينة.
وأضاف نجيب لـ"الحدث"، أن الاحتلال يحاول فرض سيادته على المدينة والمسجد الأقصى منذ الثمانينيات، ويحاول جاهدا عدم إبقاء أي أحد داخل المسجد بعد صلاة العشاء وفض الاعتكاف الذي يشكل أحد أعمدة الدفاع عن الأقصى. مشيرا إلى أن منع المصلين من الاعتكاف داخل ساحات الأقصى له عوامل كثيرة أبرزها التوافق الأردني الإسرائيلي على إغلاق المسجد بعد صلاة العشاء. مردفا، أن الاحتلال يقوم بمحاربة أي عمل يقوم به المقدسيون من أجل الحفاظ على المسجد الأقصى وخصوصا إذا لم يكن بتنسيق مسبق مع أحد دوائره. مؤكدا على أن أي تنسيق يقوم به الفلسطينيين مع الاحتلال فيما يخص القدس والمسجد الأقصى يُعتبر خيانة ويستوجب مقاطعة المنسق والنشاط التطبيعي.
وحول زيارة العرب والمسلمين للمسجد الأقصى، قال نجيب إن زيارة العرب والمسلمين هي زيارة تطبيعية، وتهدف إلى ترسيخ مفاهيم تطبيعية وشرعنة للاحتلال باغتصابه لأرض فلسطين، مشيرا إلى أن هذه الزيارات لا يستفاد منها لا سياسيا ولا اقتصاديا وإنما المستفيد الأول هو الاحتلال.
ودعا نجيب الفلسطينيين في الأراضي المحتلة إلى زيارة المسجد الأقصى وتكثيف التواجد فيه، حيث تعتبر الحالة الشعبية صمام أمان في الدفاع عن المسجد الأقصى، وإيصال رسالة أن القدس تكمن في وجدان كل فلسطيني.