خاص الحدث
واحد وسبعون عاما من النكبة وأمل العودة لم يتزحزح الحلم، بل ويزداد تجذرا في نفوس وإرادة وروح أبناء وأحفاد الآباء والأجداد الفلسطينيين الذين هجروا من بيوتهم الآمنة في مدنهم وقراهم الفلسطينية عام 1948، إثر المجازر التي ارتكبتها عصابات المنظمات الصهيونية بدعم بريطاني وتواطؤ الأنظمة العربية، فمنهم من يزال يحتفظ بمفتاح بيته وطابو أرضه ووثائق ممتلكاته، وبعضهم يحتفظ بشاحنات قديمة نقلت آباءهم وأجدادهم وأبناء بلداتهم وقراهم ومدنهم التي شردوا منها على أمل استخدامها في نقل أبنائهم وعائلاتهم وأقربائهم عند عودتهم يوما ما إلى ديارهم التي هجروا منها، وإلى أن يتحقق حلمهم فإنهم يحرصون على صيانتها والحفاظ عليها ويستخدمونها في مسيرات العودة التي تشهدها سنويا شوارع مخيمات وقرى ومدن الضفة الغربية وقطاع غزة كلما حلت عليهم ذكرى النكبة، والتي تصادف ذكراها الأليمة اليوم الأربعاء.
ورث اللاجئ محمود الحاج حامد نمر شحادة اللفتاوي من بلدة لفتا قضاء القدس، مع أشقائه من والده سيارة من نوع دوج 500 كندي موديل 1936، كان ينقل بها الحجارة والحصى لأعمال البناء، لكنه اضطر إلى استخدامها لنقل العائلة والأقارب واهالي بلدته عند سقوط بلدة لفتا عام 48 في أيدي العصابات الصهيونية إلى رام الله وأريحا، كما اضطر إلى استخدامها مرة أخرى ونقلهم إلى الأردن في النكسة عند احتلال "إسرائيل" للضفة الغربية عام 1967.
حكاية تهجير أهالي لفتا حصلت قبل ارتكاب مذبحة دير ياسين، بارتكاب عصابات المنظمات الصهيونية مذبحة ضد أبناء البلدة في "مقهى البلد" المقام في شارع يافا، مما دفع الأهالي للخروج من بيوتهم، جزء منهم لجأ لقرى مجاورة وجزء آخر آثر البقاء في البلدة إلى ما بعد سقوطها بحوالي ثلاثة أشهر.
ويؤكد شحادة، أن الدعاية التي بثتها المنظمات الإرهابية الصهيونية قبل وبعد نكبة 48 هي التي تسببت في نزوح وهجرة العديد من أبناء البلدات والقرى الفلسطينية، وتعمدت في بث دعايات من نوع أن "الصهاينة سيقتلون أكبر عدد من هذه القرية وسيرتكبون المذابح وغير ذلك"، وإن كانت هذه الأفعال صحيحة وقد ارتكبت فعلا، لكن بث الرعب في قلوب الناس الآمنين في قراهم تسببت في هجرة أعداد كبيرة منهم.
وللسيارة ذكريات أليمة لدى كل أفراد العائلة، يقول شحادة: "من بين هذه الذكريات الأليمة اضطر الأب والأبناء والأهل والأقارب للهجرة إلى الأردن في حرب 67، بواسطة سيارة الشحن هذه، بعد أن تم تركيب ستار "شادر" على صندوقها، حيث كانوا يفترشونه لأن لا وسائل نقل أخرى".
وبإصرار، يقول شحادة اللفتاوي وقد اغرورقت عيناه بالدموع "سنبقى نحافظ على هذه السيارة وهيكلها ولونها كما هو مثلما كانت موجودة عليه، فهي كالبناء التاريخي القديم والتراث والآثار القديمة، وأصبحت هذه السيارة جزءا من عائلتنا وتاريخنا وتراثنا الذي لن نفرط به، وشعار العودة مكتوب عليها "راجعلك يا دار بترك أبوي الختيار"، ولهذه السيارة قصص كثيرة لذلك فهي مرتبطة فينا ونحن لا نفرط فيها".
بعد ستة أشهر من النكسة عام 67، يتابع شحادة قصة عائلته مع سيارة العودة، "سمحت قوات الاحتلال لمن يرغب من المهجرين والمشردين بالرجوع إلى الضفة الغربية، واستغل عدد كبيرة من أبناء شعبنا هذه الفرصة وعادوا، والجزء الكبير جدا منهم عاد بواسطة هذه السيارة التي وضعها والدي تحت تصرفهم، حيث أعاد بواسطتها نحو 3200 لاجئ ومشرد بمعدل 35 شخصا في النقلة الواحدة، عن طريق جسر الأردن الخشبي".
ويتابع شحادة كلامه والألم يعتصر قلبه: "للسيارة ذكريات كبيرة بعد عمليات العبور التي حصلت، ولكن قررت إسرائيل إغلاق الحدود وقامت بإحصاء السكان الذين يتواجدون داخل الأراضي الفلسطينية في كل القرى والمدن، ولم يسمحوا بعد ذلك لأي شخص بالعودة إلا عن طريق عمليات لم الشمل التي كانت بطيئة وقليلة جدا. وحتى يتمكن والدي من نقل بعض البضائع والسلع التجارية بين الأردن والضفة الغربية، طلب منه الإسرائيليون أن يقوم بتقليب "صاج" صندوق السيارة من جانبيه ليتمكنوا من تفتيشه بسهولة وبقي يعمل على السيارة بهذه الطريقة إلى أن تم توقيفها عام 1973، وبقينا نحتفظ بها إلى أن قمنا بإعادة ترميمها وتصليحها وصيانتها قبل حوالي 3 سنوات، حيث يتم استخدامها في مسيرات العودة السنوية كلما حلت علينا ذكرى النكبة عام 48، لتصبح حلم عودة كل الناس وتذكرهم أن شعبا كان هناك يعيش بأمن وأمان في بلده ومتمسك بحلمه في العودة".
ولم يفقد شحادة اللفتاوي وبقية أبناء الشعب الفلسطيني على مر الأجيال والعقود؛ الأمل الدائم في العودة، وقال: "حتى لو طال الوقت باستخدام نفس السيارة التي نقلتنا من بلادنا في عودتنا إليها، وهو حلم كل أبناء شعبنا أينما شردوا وتواجدوا سواء في المدن أو القرى أو مخيمات اللجوء أو دول الشتات فكلهم يحلمون بالعودة".
ويتذكر شحادة اللفتاوي تعرفه سنة 1980 عندما كان يدرس في الجامعة الأردنية على فلسطيني كبير في السن يقارب عمره الـ 65 سنة من يافا وهاجر إلى الأردن إثر نكبة 48، يعتاش من وراء محل عصائر طبيعية في شارع السلط سابقا وهو شارع الملك حسين الآن، وتواصل بعد تخرجه معه.
يقول شحادة اللفتاوي، سألته إن كان يزور يافا بعد النكبة، لكنه رد بحزن وأسى وحسرة بالنفي وقال: "لكنني أعرف عنها كل شيء ولا أنساها، فإن منعتني الإجراءات الإسرائيلية من زيارتها والعودة لها فإنها تعجز عن منع حلمي بالعودة إليها والتفكير بها على مدار الساعة ونذر علي إن عادت فلسطين سأرجع من عمان إلى يافا مشيا على الأقدام وحافيا".
وإن كان هذا الرجل توفي قبل حوالي 12 سنة، يقول شحادة اللفتاوي "فإن أولاده وأحفاده الذين ما زالوا في محل العصائر يحلمون بتحقيق حلم جدهم بالعودة إلى بلدهم يافا مثلهم مثل الملايين من أبناء الشعب الفلسطيني اللاجئين في دول الشتات يحلمون بالرجوع إلى فلسطين، فحق العودة لا يسقط بالتقادم ولا بتعاقب الأجيال ولن ننسى، وهذه بلدنا فلسطين تعاقبت عليها العديد من الاحتلالات والجماعات الغازية وكلها ذهبت بلا رجعة.. لا أمل في أن لا يستمر الاحتلال وحتى لو استمر فإنه لن يسقط حقنا بالعودة ولن يسقط من ذاكرتنا أن نحلم بها".
ويتابع شحادة اللفتاوي: "صحيح نعيش في فلسطين، لكن كل يوم يمر نستحضر فيه بلدنا لفتا ونحلم بالعودة وكل الفلسطينيين المشردين في العالم يحلمون بالعودة على الرغم من أنهم يعيشون في الشتات ويعملون هناك لكن قلوبهم وعقولهم مع بيوتهم وديارهم التي شردوا منها في فلسطين المحتلة عام 48".
يقول شحادة اللفتاوي: "قمت بزيارة بلدنا لفتا المهجرة، بعض البيوت بقيت صالحة تسكنها عائلات المستوطنين من بينها بيت عمي شحادة الذي ما يزال قائما على نفس شارع يافا لغاية اليوم، وزرته عدة مرات عندما كان والدي على قيد الحياة وبعد وفاته، والمستوطن الإسرائيلي الذي يحتله يعرف من هو صاحب البيت، وفي أحد المرات قال لوالدي هذا البيت لشقيقك، لكنهم يقولون هذا البيت كان لكم منذ زمن أما اليوم فهو لنا، فالبيت لنا بالأمس واليوم وغدا ووجودهم وجود عابر وسيرحلون في يوم من الأيام وسيخرجون من بلادنا، والإسرائيليون يعرفون أن قيام دولة فلسطين أمر مؤكد وأن إسرائيل إلى زوال، وارتباطنا في بلدنا هو ارتباط عقائدي ومجذر في داخلنا".
وهو الأمر نفسه الذي أبداه اللاجئ عبدالسلام محمود (58 عاما) المقيم في مخيم عسكر بمدينة نابلس، والذي أعلن تمسكه بالعودة إلى مسقط رأس والده في مدينة يافا التي هجر منها عام 1948 مع إخوته وشقيقاته.
ويقول "نحتفظ بهذه السيارة كإرث له ذكريات، لأننا سنعود فيها يوما ما إلى ديارنا، صحيح أنني لم أولد فيها ولكنها أرضنا التي ليس لنا مكان غيرها وسنعود إليها يوما ما ولو بهذه السيارة موديل 1941 من عوائد الجيش العربي والتي كانت تنقل المهاجرين بين فلسطين والأردن".
ويتابع محمود: "نعيش على أمل العودة في القريب العاجل، فلم يغب هذا الحلم عنا لحظة، ونزرعه في أولادنا ليبقوا متمسكين بحلم العودة إلى بيوتنا وأرضنا في يافا".