الحدث ـ هدالة اشتية
قد تتساءل أحياناً كيف نتركُ أثرًا أو صورة أو حتى حجراً لربما يبكي على من هجروه ورحلوا، أو ربما قد تغريكَ فكرة أن المباني القديمة تفقد أهلها الذين خطّوا في يومٍ من الأيام رسومًا ودموعًا، واستنشقوا رائحة مسيل الدموع فيها، وقد تقفُ هامتك عاجزة أمام عنفوان البناء الغريب ذا الحجارة والزخرفات المتناثرة على الجدران، إنها الآثار، أو دعنا نسميها إرثًا تاريخيًا تعاقبت عليه أجياٌل وأجيال، حتى فقد أهلَه.
"حوش" وجدران عالية
عدة بيوٍت واسعة ومتراكمة تُجمع حول ساحٍة واسعة أو "حوش"، يتخللها "الليوان" ورواق قصير يصل كل بيت بالآخر، على الطراز المعماري العثماني بُني بيت عبدالله عفانة على يد آل عبد الهادي تحديدًا"عبد الهادي القاسم" في ذلك الوقت.
عندما سُئِلَ عبدالقادر عفانة الابن الأكبر للعائلة عن البيت فقال" كان يجمع البيت عدة عائلات وليس عائلة واحدة، وبيتنا هذا واحدٌ من أقدم البيوت ليس فقط في سلفيت وإنما في فلسطين كلّها، فطرازه العثماني وبناؤه جلب له الزوار والكثير من السياح من فترة لأخرى، لكنها فترات متقطعة".
نظر عبدالقادر حوله إلى البيت ويبدو أنّ الذكريات صفعته قليلاً فقال:"جمعتني مع أفراد عائلتي والجيران ذكرياتٌ كثيرة، فنحن لا ننسى اجتياحات الاحتلال المتكررة للمدينة واختباء المطاردين وبقية الشبان في أروقة المنزل، فهذا المنزل جمعَ دموع أمهات، وأنينِ أطفال، وصراخ مصابين، ولوعةِ زوجات".
و يقع بيت عفانة وسط مدينة سلفيت جامعًا ست بيوٍت متراكمة تعودُ كلُّها لذات العائلة.تماضر عفانة التي قضت طفولتها بين جدران هذا البيت وصفته بدقة أن ما يميّزُ هذا البيت وبقية البيوت كما يتميّز غيرها من المباني القديمة، ذات الحجارة الملساء البارزة، والجدران العالية، متخللة فتحات واسعة أو خزائن ذاتية داخل الجدار، وعند نظركَ للأعلى سيلفت انتباهكَ سقف البيت المقعّر على شكل قوٍس من الداخل، ولا تلبث أن تنظر إلى الشبابيك حتى تجدها على مستوى جسدك أو أقل بقليل؛ طويلة ذات قوٍس من الأعلى ومساحةٍ صغيرة تتسع لجلوسك أمام هذا الشباك تنظر للمارة تارة، وتقذف حبات الليمون والتين التي تجلبها من شجر الحوش تارةً أخرى".
إلّا أن ذلك المكان المسمّى بـ "السرّ" لصغر مساحته؛ فهو رواٌق طويل يفضي إلى الحوش، ويعتبر المدخل الرئيسي لهذه البيوت المتراكمة، تجدُ فيه العديد من المساقي المحفورة في الجدران، تصعدُ إليها بعدة درجاٍت صغيرة، فيخطر ببالك تساؤل! ما هذه؟ إنها أماكن ضيقة لا تتسعُ إلّا لشخصٍ واحد، يغسلُ فيها الشخص يديه بينما تغسل فيها سيدة المنزل ما تريدُ على عجل.
منسيّ؟
بعد وفاة الحاجة مريم دغليس، وعبد الحليم"أبو صبحي" لم يبقَ في هذه البيوت حياة، كانت الحاجة مريم آخر من سكن بيوت عبدالله عفانة وعبدالحليم عفانة آخر من سكن بيته وهي ذاتها البيوت التي تعود لعائلة "عفانة". فقد بكت السيدة تماضر أمها قائلة:" أصبحت البيوت خاليةَ من الحياة، يغمرها الغبار والحشائش الطويلة، لم يعد بمقدور من ورثها الاعتناء بها، فأصبحت ملجأ القطط البرّية وسواد الليل القاتم بعد لياٍل طويلة من التسامر والنهارات الواسعة من الحياة اليومية لربّات البيوت في مواسم الحصاد والزيتون واجتماعات العائلات الممتدة في الحوش".
من يتحمل المسؤولية؟
ما زال ورثةُ هذا المنزل يتلّقون وعودًا بشرائه وتولي الحكومةَ به، لإدخال الحياةِ بين أروقته، لكن ماذا بعد؟ هل سيبقى قائمًا؟ أم سيتم هدمه لإعلاء عماراٍت ذات طراز معماريٍ جديدٍ هش؟ نُسابِقُ المجهول، إذن؛ من يتحمل المسؤولية؟