عندنا الصبايا دايما على "سنجة عشرة"، والأطفال على سنجة عشرة، والشباب على سنجة عشرة، والعجائز شعرهم مصبوغ وأوضاعهم تمام، الكل رايح جاي على الجيم، وعند طبيب الأنظمة الغذائية. المجتمع كله منهمك عن بكرة أبيه في وضع الأصباغ والأقنعة. ولا بد أنكم لاحظتم أن رجال السياسة عندنا يضعون على رؤوسهم "الجل" وأنواع متعددة من مثبتات الشعر، ويمكن لك أن تتخيل أن أحدهم يذهب إلى "الكوافير" قبل أن يأتي إلى المظاهرة، ربما أنه خائف من أن تصطاده عدسة أحد التلفزيونات وهو غير جاهز للظهور بأجمل وجه ممكن.
عندما كنت أدرس في الولايات المتحدة –خصوصا بعد أن انضمت إلي زوجتي في العام الثاني- كان الأمريكيون يلاحظون أنني دائما مهندم "على سنجة عشرة" أو "لابس اللي على الحبل" حليق الذقن مرتب الشعر...الخ فكانوا تلقائياً يقولون لي: تبدو أنيقا، والوضع على ما يرام (you look great). بعد بعض الوقت توقفوا عن مجاملتي لأنهم اكتشفوا أنني دائما "صلاة النبي" جاهز للتصوير مع أنني كنت طالبا جامعيا. بالطبع لم يكن أساتذتي دائما جاهزين مثلي، بل إن أحدهم –وكان يحوز جائزة نوبل- كثيرا ما كان يحضر إلى الجامعة وهو يلبس بنطال قصير مع صندل جلدي بسيط، وذقنه وشعره مهملان. كان هناك دائما مؤشرات على أن الناس مشغولة في العمل أو الدراسة. ولذلك فإن الفرصة لرؤية الصبايا وهن يظهرن جمالهن والرجال وهم يصلحون من هندامهم شيئا ما تقتصر على نهاية الأسبوع حيث تخف الضغوط بمقدار معين.
من ناحية أخرى لا نتوانى في ثقافتنا القومية والفلسطينية عن وضع الأقنعة الضرورية ثقافيا واجتماعيا وأخلاقيا، ولذلك على سبيل المثال يصعب أن تسأل أحدنا عن شيء مهما كان تافه الشأن أو عظيم القدر، صعبا أو سهلا، إلا أجاب بأنه يعرفه. التظاهر والادعاء والتباهي جزء لا يتجزأ من ثقافتنا. ولا بد أن ثقافة التظاهر والادعاء تشمل أيضا قطاع السياسية والعلم والفن والأكاديميا. فيتم الادعاء الكاذب بتحقيق الإنجازات السياسية والعلمية والأكاديمية التي يحدث في أحيان كثيرة أن يصدقها البسطاء مما يسهم في تفاقم أوضاعنا المحزنة باعتبار أن الوهم ينتشر بين الناس معلنا أن كل شيء على ما يرام سياسيا وعلميا واقتصاديا وأننا على الطريق. من ناحية ثانية هناك الجزء من المجتمع الذي يعي أن كل ما يقال هو مجرد أكاذيب ملفقة وأننا في الواقع نحث الخطى بسرعة نحسد عليها باتجاه الخروج من التاريخ.
ربما أن الكثير منا لا يدرك "المخاطر" التي تترتب على ثقافة الأقنعة وممارستها عندما تتحول إلى ظاهرة اجتماعية كاملة تشل الفعل الحقيقي وتستبدل به الوهم والمظهر الخارجي الخداع الذي يفضح أكثر مما يستر وتطلب مقدارا عاليا من الغباء أو التواطئ حتى لا ينكشف للعين العادية ناهيك عن العين الخبيرة الواعية. نود أن نشير بشكل مبتسر فيما يلي إلى بعض جوانب التظاهر مع محاولة التنويه بالمضار الناجمة عنها.
1. يضر التظاهر والتبرج الدائم الذي يحك العلاقة بين الجنسين بالحب والجنس على السواء. تكون المرأة في الشارع أجمل دائما من البيت والفراش، والرجل تقريبا مثلها. عندما تكون الصبية الغربية مشخصة تقول لها "يو لوك غريت" أما نحن فمثلما أشرت في وصف نفسي تحديدا دائما "غريت". بالطبع هناك اللطف المصطنع الدائم الذي يمارسه الرجل مع أية امرأة في الحيز العام، والجاهزية التامة طوال الوقت لإبداء الاهتمام والإعجاب والغزل ...الخ بأية امرأة حتى عندما لا تكون جذابة فعلا بالنسبة له. وتقوم الفتيات بدورهن بألعابهن المعتادة: الدلال والنعومة والرقة في سياق العمل والدراسة طوال الوقت. ولا تنكشف الشخصية الحقيقية إلا بعد العودة إلى المنزل حيث يتم نزع القناع على باب المنزل لتظهر الوجوه الحقيقية. من الطريف هنا مقدار كذب الرجال وإصرارهم على الادعاء والتظاهر، مثلا الرجل مستعد أن يعيش مع زوجته دون اي تواصل جسدي من أجل حفاظا على المظاهر، هو لا يجرؤ في الغالب على كشف صعوباته أمام الطبيب ويمكن أن يقوم بالضغط على زوجته وصولا لتهديدها بالطلاق إن هي أفشت أسراره ...الخ تعرفون المهم هو واجهتنا الخارجية.
2. يعبر فعل التظاهر الدائم عن الفراغ والبطالة الدائمة التي تسمح للجميع بأن ينفقوا الوقت الطويل يوميا في التبرج ووضع الأقنعة. إن طالبة في جامعة تحتاج إلى أن تدرس يوميا ست ساعات وتقضي في الجامعة سبع أو ثماني ساعات لن تجد الوقت الكافي لكي يكون شعرها ووجها وملابسها على أفضل ما يكون في كل يوم من أيام الأسبوع. ومن البدهي أن قائدا لديه قضية فعلية لا بد أن يكون خاضعا لضغوط شديدة، قد لا تسمح له بأن ينام أكثر من خمس ساعات. لذلك من المدهش أن تجد القادة في بلادنا بمن فيهم قادة منظمة التحرير التي ما تزال في حدود علمنا تعرف نفسها بأنها ثورة لشعب تحت الاحتلال، من المدهش بالفعل أن تجدهم مرتبين مهندمين كأنهم ممثلون في هوليود أو في السينما المصرية. ومن أين يجد أستاذ الجامعة الموزع بين التدريس وتصحيح الأوراق وكتابة الأبحاث، وممارسة أدواره الاجتماعية المختلفة الوقت لكي يكون دائما على سنجة عشرة؟ من الواضح أن هنك حالة من اللافاعلية تسود بلادنا قد لا يكون لها نظير في العالمين.
3.لا بد أن ما نواجهه تجسيد لأزمة أخلاقية تعبر عن النفاق المجتمعي الواسع الذي يسمنا بسمة الجعجعة والميل إلى الخطابة ذات النبرة المرتفعة تعويضا عن غياب ما ندعيه أو إخفاء له لا فرق. عموما ثقافة التظاهر تسود إلى حد لا تسمح لنا به بكشف ذواتنا أبدا، إذ نعيش فعليا في مستويين من الحقيقة أحدهما قناع مادي وأخلاقي نقدم به أنفسنا للآخرين، وثانيهما حقيقتنا الفعلية التي نخجل منها، ولا نرغب في البوح بها. لكن ما يدفع هذا الوضع إلى حافة المرض هو أننا جميعا نعرف أن ما نواجهه هو أكاذيب لا تختلف عن أكاذيبنا. من الصحيح بالطبع أن هناك من يتقن مهارات الكذب والتبرج أكثر من غيره، وهو ما يسمح له بتحقيق قدرة أعلى على الخداع، ولكن البسطاء فقط هم من ينخدعون طوال الوقت بألاعيب التخفي الأخلاقي والسياسي والعلمي المكشوفة بسبب سعة انتشارها.
4.هناك عقد اجتماعي ضمني مشين ينجم عن معرفة الجميع بوجود األأقنعة، وهو ما يولد حالة من سوء النية التي تقوم على فكرة أن أتظاهر بتصديقك مقابل أن نتظاهر بتصديقي... الخ إنه عقد مدمر لإنتاجية المجتمع وقدرته على التطور إن لم يكن الأمر أسوأ من ذلك. تخيلوا مثلا أن أساتذة الجامعات جميعا يتظاهرون بأن العملية التعليمية والبحثية على خير ما يرام ويحجمون عن القيام بالنقد بحق الممارسات الرديئة السائدة. وذلك ينطبق على الأطباء في الذين يغطون أخطاء بعضهم بعض، ومثلهم من يشتغلون في السياسة ويملآون الفضاء زعيقا في كل مناسبة، ثم يلتقطون الصور ويهنئ بعضهم بعضا بنجاح المناسبة، وكان الله بالسر عليما.
لسنا نعرف على وجه الدقة أية وصفة سريعة لمواجهة هذه الظاهرة الفريدة التي تستند إلى ما يشبه الإجماع على إنكار الحقيقة والوقائع والإصرار على الكذب والتظاهر. نعرف طبعا أن هذه ثقافة وأخلاق وممارسات نبعت جزئيا من الموروث الذي وصل إلينا من عصر الإقطاع التركي المتسم بالخوف وثقافة المداهنة والخضوع، لكن الماضي لا يفسر الحاضر أبدا؛ لا بد أن الحاضر الذي نفشل فيه في تحقيق المهام التي يجب أن نضطلع بها سياسيا واقتصاديا وعلميا، يؤدي إلى إعادة إنتاج ذلك الموروث على نحو أشد قسوة بسبب أن العالم تجاوز الإقطاع وثقافته بينما نحن نواصل العيش في تلك الشروط الغريبة عن روح العصر. بالطبع العمل الثقافي الانتقادي مهم جدا، وإن لم يكن كافيا بذاته لتجاوز هذه الصورة. لكنه بدون شك خطوة ضروية على طريق إعادة بناء ثقافة المجتمع بما ينسجم مع أخلاق الثورة العميقة في الميادين المختلفة.