الحدث - إسراء أبو عيشة
إيقاف الزمن، والعودة للمكان، حلم يعيشه اللاجئ الفلسطيني منذ 71 عاما، ويرفض احتمال التأقلم مع المكان والزمان، فالعام لديهم بقي كما هو، حتى الشهر والساعة، فالذاكرة لديهم لم تخن الأرض والوطن، وتشرد عام 1948 ما يقارب عن 800 ألف فلسطيني من قراهم ومدنهم من أصل 1.4 مليون فلسطيني كانوا يقيمون في فلسطين التاريخية عام 1948.
وأكد المختص في التراث الشعبي الفلسطيني- أستاذ علم الاجتماع في جامعة بيرزيت د. مصلح كناعنة لـ "الحدث"، أن ذاكرة اللاجئين تعتبر مهمة جدا لنا لاستمرارية الهوية والانتماء، لأن الذاكرة هي ترسيخ للجذور التاريخية، وهذا ما يكوّن شخصيتنا، لذلك من الصعب أن يترسخ الانتماء للوطن أو للشعب بدون العودة للذاكرة وإعادة أحداث النكبة، لكي نستطيع التعامل مع العالم ونفهم الواقع الحالي.
وأشار كناعنة، أنه في مرحلة معينة ما بعد أحداث النكبة، وتحديدا ما بين الخمسينات والثمانينيات، كان هناك تحفظ كبير جدا لدى الفلسطينيين الذين هُجروا من أراضيهم على العودة في الذاكرة لما حدث معهم عام 1948، وكانوا أيضا يقومون بقمع الذكريات ويمتنعون عن الإجابة على الأسئلة. وأضاف، أنه أُثبت من خلال الدراسات أن بعض اللاجئين أيضا كانوا يمنعون أنفسهم من التفكير بما حدث معهم، والسبب الأساسي في ذلك هو شعورهم بالذنب والعار بما حدث، أنه كيف بهذه السهولة خسروا البلاد وهجروا، وكذلك محاولة منهم للتكيف مع الظروف الجديدة، ولكي لا يحمل الجيل الصغير هذا العبء التاريخي المتعب عنهم.
وأوضح كناعنة، أن أحداث الانتفاضة الأولى عام 1989، كانت نقطة التحول، فأعادت الثقة للناس حيث أصبح بإمكانهم تقرير مصيرهم، وهذا ما ساعدهم في إعادة الرجوع للذاكرة واسترجاع ما حدث لهم في النكبة، وأصبحت هناك ردة فعل معاكسة بأنهم أنفسهم أصبحوا من محبي الحديث عن النكبة وأحداثها.
وبحسب كناعنة، فإن الجيش الإسرائيلي كان يعتقد في مرحلة ما بعد أحداث النكبة، أنه وجه ضربة قاضية للشعب الفلسطيني، بسبب الصمت الذي ساد في تلك الفترة، فكان يخيل له أنه أصبح بإمكانه وبسهولة التحكم بالفلسطينيين من خلال خلق هويات جديدة لهم، وتكريس الفكر الصهيوني الإسرائيلي اليهودي في مناهج التعليم، لكن في الثمانينات بدأت خيبة أملهم بالظهور، لأنه تبين لهم أن سكوت الفلسطينيين هو عبارة عن ردة فعل نفسية فقط، فأصبح هناك تخوف وتطرف من قبل المحتل الإسرائيلي في التعامل مع الفلسطينيين لأنهم تأكدوا أن عبارة "يموت الآباء فيموت الأبناء" غير صحيحة لأن الأبناء أصبحوا قوة ذاكرة آباءهم لما حدث.
وقال كناعنة، إن اللاجئ الفلسطيني إذا أتيحت له الفرصة للرجوع لرؤية بلاده، فإن هذا يساعده كثيرا في مواجهة الذاكرة، لأن اللاجئ الذي خرج من بلاده عام 1948، الصورة الموجودة في ذهنه هي صورة متجمدة للحظة التي خرج فيها من المكان، لذلك لديهم تشوق دائم لرؤية بلادهم.
ويرى كناعنة من خلال تجربته، أن هذا اللاجئ عندما يعود ويرى بلده المرسومة صورته في ذهنه غير موجود إطلاقا وأصبح عبارة عن كومة من الحجارة، سيمر بأزمة سريعة لمدة أيام أو أسابيع، بعدها، سيصبح واقعيا أكثر ويشعر بانتعاش وراحة، وسيعرف أن أمله بالعودة يجب أن يكون مبنيا على أسس أخرى وعلى أبناء الوطن، وليس على استرجاع الوطن كما كان.
أشار كناعنة، أنه في هذه المرحلة نحاول أن نسابق الزمن في جمع ذكريات النكبة، وإنقاذها من الضياع، وذلك بسبب أن جيل النكبة أصبح يختفي، وهذا يشكل تحديا لكل شخص يعمل في هذا المجال، لأنه من خلال جمع المعلومات في هذه السرعة وإصرارنا على الحصول على أكبر قدر ممكن من الأحداث والذكريات، يجعلنا غير حذرين في مضاعفات تذكر ما حدث في النكبة على الإنسان من جوانب نفسية وعاطفية، "في رأيي نحن نقوم بظلم هؤلاء الأشخاص عندما نخضعهم لضغط من هذا النوع لمجرد جمع المعلومات".
ويشار أن الدكتور مصلح كناعنة محاضر في علم الانسان وعلم الاجتماع في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بيرزيت، وباحث مختص في التراث الشعبي الفلسطيني.