الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الجاحظ وصفقة القرن

2019-05-23 12:31:22 PM
الجاحظ وصفقة القرن
رولا سرحان

 

ما وصلنا، حتى الآن، من "خطة السلام" التي لا نعرف شيئا عنها، لا يعدو كونه التسمية المتداولة، المعروفة بـ "صفقة القرن"، في ظل حركة إعلامية تتجاوب تأكيداً على الاستخدام البليغ والمكثف لذلك المصطلح دون صلة بينه وبين الواقع سوى رمزية دون دلالة، ومخيال سياسي يترتب الواقع له.

ولعل في الاستخدام المجرد للمصطلح بالتواتر الموصوف قد كانت له قصدية معدَّة للسعي لإتمام ما لم يكن في الوسع إتمامه في السنوات السابقة من مخيال السلام في ظل الاحتلال، فباتت صفقة القرن بلاغة سياسية في ظل مضمر رمزي منسجم مع وقائع القوة وتمثلاتها باتجاه التنفيذ، وليُطلق العنان لكل فكرة ممكنة هي بالمحصلة سيئة لجهة الفلسطينيين، وجيدة لجهة المستعمر الإسرائيلي وداعمه الأمريكي، حتى "إذا وقعت الواقعة، ليس لوقعتها كاذبة".

إن بلاغة مصطلح "صفقة القرن" تحملُ إشاراتها وتنبيهاتها معها، لينكشف لنا تباعاً وبفترات زمنية متقاربة أن المصطلح يحمل معه أكثر من بلاغٍ، لأنها بلاغات؛ جمع "بلاغة"، وليس جمع "تبليغ" وإن حُمِل المعنى –الذي هو معنى أساس- في جوفها.

والمدلولات البلاغية والتبليغية لاصطلاح "صفقة القرن" تُرد إلى أصلها في علم الاقتصاد لتتضمن معنى الشراء والبيع وسرعة الإنجاز مع هامش مخاطرة كبير. بينما تتضمن في علم اللغة معنى يفيدُ الوقاحة والتعاون في التنفيذ مع استخدام القوة. في المقابل فإن كلمة "قرن"، وإن تضمنت الإحالة اللغوية لها تعريفاً حاملاً لمعنى "المئة عام"، فإنها في ذات المعنى تعني تعريفاً: "الحبلُ الذي يُربطُ به البعيران": بينما الفعلُ منها يُحيلُ إلى: المزاوجة والملازمة والجمع.  

والمتخيل، الذي هو جزء أساس من (البلاغة/الصفقة غير المعلنة)، له قوة عظمى تضغط على (أعصاب المتلقي/الفلسطيني) وتدفعه إلى الاستجابة لمضمونها الذي تفرضه، وهو المنسجم مع وصف ابن سينا له حين يوضح أن: "المتخيل هو الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط لأمور وتنفعل لأمور، (..) انفعالاً نفسياً غير فكري." 

أي بمعنى، أن "إطلاق الصفقة" له دلالات لغوية تتجسدُ في واقع نافذ أصلاً، بينما حركة الإيهام بأن شيئاً لم يُعرض بعد، هي فنُ السياسة يستخدم أدوات علم الاقتصاد عبر عملية "تسويق بطابع حديث"، هي شيء من البروباغندا، بخصائص مختلفة؛ تتمثلُ في عملية ضخٍ إعلامي في اتجاهٍ واحدٍ لـ "اللا- معلومة"، في سبيل إطلاق العنان لما "يُمكن" بأقصى درجاته سوءاً / جودة، دون توقفٌ عن تنفيذ الفعلِ الأصلي المرادِ تنفيذهُ بقبول واعترافٍ به.

والجاحظ الذي هو من بين أهم العرب الذي فسر معنى البلاغة كتعريف جامع، كان أيضاً أول العرب استخداماً للرمزية في أدبه وفكره، وكان أسلوب الجاحظ في الكتابة دائما يستحضرُ القارئ أمام ناظريه، يحاولُ أن يُرشِدهُ وينبههُ، وهو في كتابه "العبر والاعتبار"، يتوجه بطلب مباشر إليه فيقول (تأمَّل، فكِّر)، فهل يُمكنُ أن نتأمل، ونُفكر.