السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

وقفة مع كتاب "بيوت العنكبوت.. قراءة نقدية في تطبيع الوعي"

كتب كمال هماش

2019-05-24 10:35:05 AM
وقفة مع كتاب
كتاب: بيوت العنكبوت.. قراءة نقدية في تطبيع الوعي

 

الحدث فكر ونقد

خيمة التضامن في مخيم الدهيشة أشبه ما تكون بخلية ثقافية ومعرفية تدور فيها المناقشات وتعصف فيها الأفكار المتنوعة والمتفاوتة جوهرا وشكلا، فرغم موضوع الاعتصام التضامني الطاغي على حديث الخيمة، بخطاب وفد تضامني أو بكلمات جميلة بينية لعريف حفل أو مشاركة فنية لطفل أو فنان كبير كأحمد ابو سلعوم؛ تنتشر الدوائر والحلقات التي تضم وحدة تنوع غريبة، من متناقضات سياسية وأيديولوجية وتفاوت في الأجيال.

في الخيمة تتعرف إلى آخر الإصدارات الثقافية والفكرية والفنية، بعد أن تستمع لآخر مستجدات إضراب الأسرى وموضوع الاعتصام أو ما طرأ على قضية تسليم جثمان شهيد ما، أو المرحلة التي وصلت إليها عملية ترميم أو بناء بيت لأسرة محتاجة.. عقول نيرة براقة وسواعد لا تكل وحناجر تهتف للوطن، هكذا هي خيمة التضامن التي جمعتنا خلال فترة إضراب الأسرى خالد فراج وحسام الرزة ورفاقهم عن الطعام، آخر الشتاء وأول الربيع من مطلع العام 2019 م العام الـ 71 للنكبة.

وعلى أهمية قضايا التطبيع مع العدو وتمحور الكثير من النقاشات حولها، علمنا من الكاتب الصحفي حمدي فراج أن كتابا  في موضوع التطبيع قد صدر مؤخرا من تأليف شقيقه المرحوم جمال والد الأسير المضرب عن الطعام خالد فراج، وأنه يحمل عنوان "بيوت العنكبوت.. قراءة نقدية في تطبيع الوعي".

العنوان الملفت للنظر وما يشير إليه كرّس فضولا كبيرا لمعرفة مضمون الكتاب، وإن كنت أطيل في التقديم فلأنني أعرف الكاتب الذي لم يقدم نفسه يوما ككاتب، هو مجرد مناضل صلب لا يكل عن العمل بيده في مواقع العمل وطرح موقفه في كافة القضايا بهدوء العقل وحدة اللسان، الذي رافقه مرض سكري الدم منذ الطفولة فكل التحية والسلام  لروح المرحوم الكاتب جمال فراج.

جمع الكاتب في  إنتاجه الذي أنجزه في المعتقل والصادر بعد وفاته "بيوت العنكبوت "، بين مقولة (المكتوب يُقرأ من عنوانه) عبر دلالاته عن هشاشة البناء القائم على بيئة لا تحتمله ودونما التزام بمحددات الطبيعة التي يقوم عليها البناء الراسخ، الطبيعة التي تلفظ ما لا ينسجم معها من بناء وتتركه في مهب الريح لتقتلعه من أساساته الضعيفة،  ويجمع الكتاب بين التفكير الفلسفي والتأصيل اللغوي والاصطلاحي لمفردة التطبيع الشاسعة برؤية صلبة مسبقة، ومرافقة لكل صفحات الكتاب في الرفض المبدئي للتطبيع القائم على معادلة تفتقد الندية والتكافؤ والقناعة الذاتية بمنتج العلاقة الطبيعية بين أطرافها.

ومع علمنا المسبق بأن الكاتب ليس بالرجل الأكاديمي، فإن ذلك من قبيل الثقافة العامة، إلا أن الكتاب يستند إلى أهم أركان البحث من حيث حرصه على التوثيق، وإن لم يراع ما تتضمنه مناهج العمل الأكاديمي الكلاسيكي، خاصة وأنه لم يطرح كتابه كبحث علمي أو دراسة أكاديمية، إلا أن عملية التوثيق ذاتها وحيثما وردت قصدت التأكيد وتجنيد الوعي لصالح موقف الكاتب الرافض للتطبيع بلغة وأدلة يسودها الإقناع والإسناد.

ومن خلال مطالعة "بيوت العنكبوت" نلمس الجديد في قراءة موضوع التطبيع والمتمثل في الكثافة الكمية والنوعية للمعلومة المتعلقة بموضوع الكتاب، والتي لم تتوفر في كتابات سابقة بما يجعل من هذا الكتاب أحد المراجع المهمة لدراسة مسألة التطبيع في بعديها النظري المجرد والسياسي العام ، وخاصة ذلك الجزء المتعلق بنشاط التطبيع مع العدو الإسرائيلي من أشخاص ومؤسسات فلسطينية على اختلاف تصنيفاتها، ولعل الجلد المذهل الذي تمتع به الكاتب طوال سنوات عمله على الكتاب ساهم في إخراجه بما يمكن المثقف والقارئ البسيط من استيعاب مضمونه والاستمتاع بصياغته، بغض النظر عن درجة وعيه في الموقف من التطبيع.

يتجاوز الغرض من الكتاب الدعوة التقليدية  لمقاومة التطبيع، لينفذ إلى الطبقات الأخطر من تأثير سياسات وسلوكيات التطبيع على الوعي الذي يدير سلوكنا تجاه العدو، ويهدد جوهر أهدافنا الوطنية وأدوات تحقيقها مستشهدا بنماذج نظرية وعملية تمس الاقتصاد والسياسة، وتوجز من تاريخ الصراع العربي الفلسطيني مع الصهيوني ما يكفي لرفد القارئ بذخيرة داعمة لتعزيز القناعة في مقاومة أثر التطبيع.

انطلق الكاتب في الفصل الأول من كتابه المشتمل على أربعة فصول، من عرض التعريف العام للتطبيع لغة واصطلاحا واستخداما على أرض الواقع، مبينا شروطه وأشكاله ومتعرضا لأهمية التطبيع  كضرورة تستلزمها العولمة بمنطقها الإمبريالي، ليخلص إلى بلورة موقف من التطبيع استنادا إلى توفر شروطه من عدمها والأشكال المناسبة له في ظل اشتراطاته والظرف الذاتي والموضوعي لأطرافه.

لينتقل في الفصل الثاني إلى النموذج الرئيسي والمتمثل في قراءة التطبيع في الصراع العربي الإسرائيلي، مقارنة بالمفهوم العام للتطبيع ومستعرضا الرؤية الصهيونية والرؤية العربية للتطبيع بشكل منفرد، في ظل السمات الرئيسة التي يراها الكاتب للصراع العربي الصهيوني من منطلقات قومية تقدمية.

ويذهب الكاتب في الفصل الثالث مباشرة إلى شرعنة الكيان الصهيوني والخطوات المتدرجة في إنجازه  لشرعية وجوده، مبتدئا بوجود الكيان كضرورة للمركز الرأسمالي العالمي وترتيباته الاستعمارية للشعوب، وتحقيق هذا الكيان اعترافا بوجوده في النظام الرسمي العربي ومنظمة التحرير، عبر الاعترافات المتبادلة الرسمية مع إسرائيل والاعترافات الضمنية وتشريع وجود الكيان الصهيوني عبر  الالتزام ببرنامج حل الدولتين الذي يعني في مضمونه تشريعا لوجود الكيان في فلسطين.

ويرى الكاتب أن الأحزاب الثورية واليسارية والإسلامية العربية، متماهية مع النظام العربي الرسمي بمبررات تطلقها لتقنع نفسها وقواعدها بما تذهب إليه من مواقف.

وفي سياق الكشف عن أسباب بحث الكيان الصهيوني عن علاقات طبيعية مع المحيط العربي والإسلامي في الفصل الرابع من الكتاب، حدد الكاتب تسع نقاط حرجة تكفل الواحدة منها وصول معادلة وجود الكيان إلى نقطة الانقلاب التفاضلية، والتي تترجم سياسيا بانتكاسة مشروع وجود الكيان بجوهره وشكله، ولن أتطرق لهذه النقاط لحاجتها لمتسع لا توفره المقالة وتاركا ذلك لفضول من يتفضل بقراءة الكتاب.

والأمر الذي لا بد من الإشارة إليه هو النماذج التي يستعرضها الكاتب، في سياقات تاريخية ويعالجها وفقا للمحددات النظرية لمقولة التطبيع على مستويات مختلفة، فنستكشف من خلال القراءة خارطة واضحة من التحالفات العلنية والضمنية، على أسس من تبادل المصالح للأنظمة والقوى السياسية والاجتماعية التي انخرطت في التطبيع مع الكيان الصهيوني مقابل ضمان استمراريتها.

كما يأخذنا الكاتب إلى تجوال مريح في الأحداث التاريخية المتصلة بالصراع العربي الإسرائيلي والنزاعات الإقليمية، في تحليل مادي يستند إلى فهم جدلية العمليات السياسية ومرابطها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ورغم ضخامة العمل المكون من ما يزيد عن 500 صفحة من القطع المتوسط، إلا أن أسبابا متعددة تدفعك لمتابعة القراءة، لما تجده من إحاطة شبه كلية بموضوع التطبيع ونماذجه المرتبطة بالأحداث السياسية التاريخية، تشبع نهم وفضول القارئ وفي أحيان كثيرة وتلامس التوقعات من كتاب بهذا المضمون والحجم.

وفي المراجعات التقليدية لأي كتاب، فإن اقتباس العبارات المحورية التي تؤشر لاتجاهات مضمونه  على أهميتها، فإنها كثيرا ما تشكل استعاضة عن القراءة بحد ذاتها، إلا أنني رأيت الخروج عن هذا المنحى، والاكتفاء باستعراض المفصل الأهم من وجهة نظري وهو تحديد الشروط المرجعية لإقامة التطبيع العقلاني والمطلوب كضرورة في وبين المجتمعات البشرية كما يحددها الكاتب، ويستند إليها كمعيار لتقييم ما يسمى "التطبيع"، فيما إن كان تركيعا من طرف لآخر، أو تطبيعا عادلا.

ويستعرض الكاتب شروط التطبيع على النحو التالي:

  1. التطبيع يتم بين طرفين أو كيانين مستقلين على خريطة الصراع وتحكمه الندية.

  2. ضرورة إعادة الأمور إلى طبيعتها ما قبل بروز الصراع.

  3. إزالة الشروط  الإجبارية وتوازن القوى.

  4. أن يعكس التطبيع مصالح المجتمع برمته وليس فئة بعينها.

  5. أن يحقق العدل والعدالة.

  6. اعتراف بالمسؤولية التاريخية عن آثار العدوان أيا كان.

  7. التأسيس لهيكل جديد للعلاقات الاجتماعية والسياسية بين الأطراف.

واعتقد هنا أن المثالية الثورية حكمت تصورات الكاتب للتطبيع بين الكيانات، سواء كان تطبيعا سياسيا أو اقتصاديا أو ثقافيا واجتماعيا، من حيث أن العلاقات بين الدول أساسا هي علاقات قوة ولا تقوم على النوايا الحسنة، الأمر الذي يقودنا تحليليا أنه لا مكان لتطبيع العلاقة بين استعمار استيطاني وشعب تحت الاحتلال لاختلال كافة المعايير المعروضة، وأن نهاية الصراع هي بزوال أحد الطرفين.

وإذا ما عرجنا لمطالعة البنية التحريرية والسردية للكتاب، فقد نجح الكاتب في الإمساك بالقارئ وبلغة قابلة للفهم من المستويات الثقافية المختلفة، حيث تتسلسل الأفكار في تراصف فسيفسائي تجمع في نهايتها الفكرة الكبرى للكتاب، والتي تدعونا جميعا إلى مواجهة ثقافة التطبيع مع الكيان الصهيوني بعد تبيان مخاطرها على الوعي الوطني والوطن بمجمله.

وحقيقة كم تمنيت أن تطول مقدمة الكتاب التي كتبها د.عادل سمارة وهو المبحر في مناهضة التطبيع وعيا وممارسة، إلا أنني أكتفي هنا بمقترح د.سمارة بضم بعض محتويات هذا الكتاب إلى المناهج التعليمية لارتكازه إلى مراجع مهمة وتجارب عينية خاضها ولا زال يخوضها شعبنا والشعوب العربية مع سياسات التطبيع.

وأخيرا فإنني أنصح السياسي والمثقف ورجل الاقتصاد وطلبة العلوم الإنسانية بشكل خاص بالاطلاع على هذا العمل الكبير بمضمونه ومعالجاته لأداة مركزية من أدوات العدو في اجتياح الوعي العربي والفلسطيني.