تتسارع الأحداث على نحو مدهش باتجاه الدفع بالوقائع في "الشرق الأوسط" خصوصا في فلسطين إلى نهايتها "الطبيعية". هناك نزاع أكمل مئة عام من عمره منذ سنتين إذا انطلقنا من فرضية أن ساعة الصفر في تدشين ذلك الصراع على نحو صريح ومعلن هي لحظة وعد بلفور في العام 1917.
أدرك الساسة الفلسطينيون وإخوتهم في أمة العرب منذ وقت مبكر أن الدولة الصهيونية المدعومة من الدول الغربية الكبرى من قبيل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة ليست قابلة للهزيمة. ومن هنا فقد كانت الفكرة العربية/الفلسطنية الرشيدة هي أن يتم "احتواء" المشروع الصهيوني وردع نزعته التوسعية عن طريق القبول به في الحدود التي تمكن منها في العام 1948 عن طريق الوصول معه إلى اتفاقية ملزمة للطرفين تسمح بأن يكتفي هذا المشروع بما حققه ويرضى من الغنيمة المستقبلية بالسلامة الكاملة. ترافق هذا التوجه مع نزعة إعلامية عربية (خصوصا لدى الأنظمة القومية واليسارية) سادت طوال الخمسينيات والستينات من القرن الماضي تبشر بالكفاح الأبدي حتى تصفية المشروع الصهيوني. لكن الوقائع تشير أن نزعة "واقعية" قد سادت من وراء الكواليس وصلت إلى حد التواصل مع قيادات الدولة العبرية بغرض التفاوض وصولا إلى إقراراها على ما هي عليه، في مقابل قبولها بالتعايش السلمي بشكل أو بآخر مع جيرانها العرب، ومحاولة البحث عن صيغ لحل ما ترتب على قيام الدولة الصهيونية من مظلمة كبيرة لحقت بأهل فلسطين.
ربما أن اتصالات الدولة المصرية في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي مع موشيه شاريت هي أبرز مثال على ما قلناه آنفاً. لقد حاولت الدولة المصرية أن تتوصل إلى اتفاق مع الدولة العبرية، محاولة أن توضح مقدار جديتها التامة في هذا الاتجاه. ولكن بن غوريون نجح في إجهاض هذه المحاولات ليكشف على نحو قاطع أن فكرة السلام الذي يؤدي إلى توقف المشروع الصهيوني هي فكرة غريبة على العقل الصهيوني "الأصيل" الذي يود التوسع والتمدد إلى أقصى درجة ممكنة.
لكن القليل جدا من الناس في الوطن العربي والعالم أجمع كان يدرك حقا جدية العقيدة الصهيونية. ذلك أن الدعاية الإسرائيلية كانت تردد طوال الوقت أن العرب هم الذين يرفضون السلام ويصرون على إلقاء اليهود في البحر. ومن المؤسف تماما أن الأنظمة العربية "الراديكالية" كانت تستمد شرعيتها الجماهيرية بمقدار أو بآخر من الخطاب العالي النبرة المعادي للصهيونية ودولتها. في المقابل كانت إسرائيل تستمد شرعيتها أيديولوجيا من المقدس من ناحية، ومن عقدة الذنب الأوروبية من ناحية أخرى. أما من الناحية الواقعية فقد كان النجاح المادي الاقتصادي والعسكري للدولة الوليدة المدين بدرجة كبيرة إلى قناعة العالم "الحر" بدورها الوظيفي هو ضمانتها الفعلية الكبرى. غني عن البيان أن أهمية دور إسرائيل في المنطقة قد تعززت كثيرا مع انتصارها الذي يجل عن الوصف على مصر وسوريا والأردن في حرب حزيران 1967، وقد ترافق هذا الانتصار العظيم مع تصاعد أهمية النفط وتصاعد أهمية أن يظل تحت الهيمنة الأمريكية والغربية بوصفه سلاحا آخر في وجه الاتحاد السوفييتي وكتلته ناهيك عن أهميته النسبية حتى في سياق إبقاء أوروبا واليابان تحت رحمة الهيمنة الأمريكية أو رعايتها، لا فرق.
جاء الانتصار الإسرائيلي مع ولادة العمل الكفاحي الفلسطيني في سياق منظمة التحرير التي "اكتشفت" على ما يبدو بسرعة غير محمودة أن جل ما يمكن فعله تجاه هذه الدولة التي لا تهزم هو إقناع المجتمع الدولي (=الغربي) بأن هناك مقدرة ما لدى الفلسطينيين على إزعاج العالم وأن من واجب هذا المجتمع أن ينزع فتيل الصراع من أجل مصلحته بالذات. من المرجح أن العمل الفلسطيني كله قد كان "استراتيجيا" يدور في ذلك الإطار بما في ذلك أعمال "الإرهاب" الممارسة من قبل الجبهة الشعبية في الساحة الدولية من قبيل اختطاف الطائرات والأعمال المسلحة في مطارات العالم المختلفة.
"استجاب" المجتمع الدولي لطرقات الفلسطينيين الغاضبين، وبدأ يتواصل معهم مبينا لهم أن الحصول على السلام "العادل" يتناقض مع ممارسة الإرهاب أو حتى القتال "المشروع" ضد الجيش الإسرائيلي ذاته. لا بد أن ينزع الفلسطينيون بمقدار كاف باتجاه السلام حتى يقنعوا الولايات المتحدة، وقبلها إسرائيل، وخصوصا المجتمع الإسرائيلي بأنهم فعلا لا يريدون تدمير إسرائيل أو إلقائها في البحر أو أي شيء من ذلك القبيل.
ربما أن هذا الاتجاه قد دشن علنا وعلى نحو رسمي في العام 1974 مع البرنامج المرحلي وخطاب عرفات في الأمم المتحدة الذي لوح فيه بغصن الزيتون أساسا مع التنويه بوجود بندقية الثائر التي تحضر فقط لإسناد غصن الزيتون وليس لحرق الأرض من تحت العدو وإشعال السماء من فوقه. ولا شك أن نموذج الجزائر وفيتنام كان قد استبعد تماما لمصلحة نموذج جنوب إفريقيا على الرغم من الاختلاف الجوهري غير القابل للجسر بين الحالتين.
تطور أداء رجل السياسية في منظمة التحرير بفعل تجربته وبفعل نصائح الخبراء الفلسطينيين والعرب والأجانب حول أفضل الطرق لمخاطبة أمريكا وإسرائيل والرأي العام في العالم الحر. وسوف يستمر هذا الاتجاه في التعمق والتوسع حتى يسيطر تماما على مفاصل المنظمة ويقود إلى اتفاقية أوسلو التي ظن الفلسطيني بسذاجة أو بنصف سذاجة ونصف سوء نية أنها بالفعل نهاية الكفاح الذي سيجلب كيانا فلسطينيا يتمتع برموز الدولة وشاراتها حتى ولو تحقق ذلك تحت الإشراف الإسرائيلي/الأمريكي المباشر.
بالطبع كان ذلك بريئا إلى درجة مزعجة، خصوصا بالنسبة للساسة الأمريكيين والإسرائيليين من المدرسة الواقعية التي قادها كيسنجر في السبعينيات، وكان من علاماتها البارزة رونالد ريغان وجورج بوش وبيرس وباراك ورابين ونتنياهو على الرغم من بعض الاختلافات في التفاصيل.
من المعلوم أن المدرسة الواقعية في السياسة تعد توسع الدولة إلى أقصى درجة ممكنة إقليميا واقتصاديا وسياسيا وجغرافيا وعسكريا، هو البدهية الأولى التي تحكم كينونتها وسيرورتها وصيرورتها. إن الدولة إنما تتوقف عند حد معين لأنها عاجزة عن تجاوزه، أما إن استطاعت أن تتجاوزه فسوف تفعل ذلك مهما يكن من أمر. ليس للأخلاق أو الوعود أو الاتفاقيات أية أهمية في هذا السياق؛ وقد قدم الرئيس ترامب على نحو فظ درساً عمليا لا يقدر بثمن عندما قام بإلغاء الاتفاقية النووية مع إيران التي أنفقت الولايات المتحدة مع ست دول أخرى ما يناهز قرنا من الزمن من أجل إنجازها. إذا كان بالإمكان بحسب المعطيات "الجديدة" فرض اتفاقية "افضل" على إيران تتضمن منعها من إنتاج أية أسلحة "هجومية" وصولا إلى نزع سلاحها الصاروخي فذلك ما يجب التوجه نحوه فورا. غني عن البيان أن المبالغة في القوة الإيرانية ومخاطرها الجمة تجلب ربحا صافيا على أكثر من صعيد ليس أقله فرض الأتاوات على دول الخليج والسعودية وغيرهما من أجل حمايتها من البعبع الإيراني.
لا جرم أن اتفاقية أوسلو قد ألغيت منذ العام 2000 على وجه التقريب ومن جانب إسرائيل على وجه التحديد. لقد أنجزت الاتفاقية الأهداف المرجوة منها والتي لا نجد حاجة لذكرها لأننا نتوهم أن القارئ اليقظ والمطلع قد أدركها منذ وقت طويل. يجب أن يثبت الفلسطينيون اليوم حسن النوايا فيما يخص قضايا من قبيل الإقرار بيهودية الدولة العبرية، والتخلي عن النزعة اللاسامية المتصلة برفض المستوطنات التي أقامها شعب الله المختار على أرضه، والإصرار على وجود دولة فلسطينية لا ضرورة لها بين نهر الأردن وإسرائيل...الخ بالطبع هناك غزة التي ما يزال عليها أن تمشي في درب التطهر من الشرور الإرهابية الذي سبق لمنظمة التحرير أن مشته بحب وطواعية وهي تحلم بشارات الدولة المستقلة وعاصمتها "القدس الشريف".
سوف تتقدم الدولة العبرية المنتصرة لقطف إنجازات انتصاراتها السياسية والعسكرية وانتصارات حلفائها وأصدقائها في مرحلة ما بعد "الربيع" العربي. ولا بد أن من بين هؤلاء الحلفاء اليوم عرب كثيرون من قبيل البحرين التي تستضيف المؤتمر الاقتصادي الذي يسعى إلى فتح صفحة جديدة تجب صفحة أسلو التي أصبحت "كادوك" على حد تعبير الراحل عرفات عندما وصف الميثاق الوطني الفلسطيني. إذا كان الميثاق الوطني الفلسطيني قابلا لأن يتقادم وتنتهي صلاحيته، فإنه ليس هناك ما يمنع أن يتقادم أوسلو ويفسد ويغدو غير صالح للاستهلاك الآدمي اليهودي، ومن ثم تصبح الحاجة ملحة إلى استبداله. لكن السياسي الفلسطيني في رام الله يحس بأن ظهره إلى الحائط، ويفكر بقليل من اليأس والخوف: ولكن ماذا بقي لدينا من أمتعة نتنازل عنها؟ لم يبق من ناحية فعلية إلا بضعة مئات من الكيلومترات المربعة هي مراكز المدن الكبرى أو "المنطقة الخضراء" من المنطقة "أ" إذا استعرنا التعبير العراقي/الأمريكي لمنطقة السلطة في بغداد.
ما العمل؟
في غزة حزب ديني يظن أن الجهاد ماض إلى يوم الدين لا يوقفه ظلم ظالم ولا عدل عادل.
لكنه يظن أيضاً أن مفهوم الوطنية والقومية والصراع على الأرض ليس جوهريا تماما في الصراع الكوني الدائر بين الكفر والإيمان، وقد رأينا قبسا من هذا التفكير يتجلى على نحو بائس في الصراع الذي دار على أرض سوريا بين معسكر كان فيه حزب الله عدو إسرائيل الأخطر في جهة، ومعكسر "الإسلام الصحيح" الذي كان في تلك اللحظة جزءا من محور مدعوم أمريكيا وربما إسرائيليا في الجهة الأخرى. للأسف انخرط حزب حماس في الصراع ضمن صفوف هذا المعكسر: المعركة التاريخية ضد الصهيونية كانت أقل أهمية من المعركة فوق التاريخية ضد نظام الأسد الكافر وحلفائه المارقين دينيا من الشيعة بأنواعهم.
أما في رام الله فهناك حزب يصر على مواصلة تقديم الأدلة على الرغبة في السلام ضمن مفردات أوسلو التي تجاوزها الزمان الأمريكي/الإسرائيلي. لكنه سيدرك عاجلا أو آجلا أن عليه أن يتطور باتجاه المزيد من التفهم للحاجات الإسرائيلية وصولا إلى التخلي التام عن فكرة الدولة الفلسطينية في الضفة وكل ما يتصل بها. ربما نجد حلا "مبدعاً" لقضية رمزية الدولة الفلسطينية وأهميتها في وعي النخبة السياسية والاقتصادية الفلسطينية عن طريق منحها دولة في غزة وجزء من سيناء، وربما دولة أخرى في الأردن تكون هاشمية الرأس فلسطينية الجسد والمحتوى.
هل من بديل لتجنب ذلك كله؟
ربما أن التاريخ لم يتجاوز بعد على نحو حاسم إمكانية الاتجاه نحو الخيار الذي يجسده حزب الله وحلفائه: التوقف عن محاولة تملق إسرائيل وأمريكا واسترضائهما دون جدوى، والشروع في خوض صراع استراتيجي طويل الأمد فعلا لا قولا، مع الإدراك العميق بأن هذا الصراع لن يتم حسمه من قبل أبناء هذا الجيل أبدا، ولا بد أن نهايته ستظل مفتوحة على الاحتمالات على امتداد العقود المقبلة. لكن البدء في التفكير في الخطوات الأولى باتجاه هذا الخيار المؤلم تماما يتطلب أولا أن تدرك النخب السياسية الفلسطينية جدية هذا الخيار وعدم وجود أفق غيره إذا كان لفلسطين أن تظل على خريطة الوجود الكفاحي على أقل تعديل.