ترجمة الحدث- سعيد بوخليط
لن أنسى قط لقاءنا.. وجه بوجنتين بارزتين، نظرة ثاقبة وابتسامة عريضة، أنيقة، سيدة نفسها لكن هادئة، أحببتُ القوة المنبعثة من حضورها، استقبلتني في منزلها، بصحبة آلة التسجيل، وكذا مجموع أسئلتي، شربنا شايا صينيا وسط هذا البيت الهادئ والمضيء. شرعت تتذكر، ثم واصلتُ إلحاحي وتقاسمنا معا مضمون هذا الكتاب. تدهشني، تتسلى بذلك، وأهتدي ثانية بهذه المرأة المنظِّرة إلى تجربتها المعيشة، وكذا المشاعر، تلعب اللعبة أو ترفض، نواصل السعي. يروق لي مزاجها، نضحك، تقاسم يخفف من عبء تلك السوداوية الضمنية للتمرين السير- ذاتي.
المثقفة الحاملة لألقاب وأمجاد، تغمرها هنا ذكريات، وربما استحضرت ثانية برفقتي "سفرها'' الشاق، لم يكن الأمر كذلك؛ ظلت مُرَكَّزة، وساعية بالأحرى، خجولة أيضا، وفي ذات الوقت حاضرة بكل كيانها. تلاحظني، بحيث تتفحص عالِمة التحليل النفسي شخصا مختصا بالمجال (كاتب وطبيب سريريّ)، والعكس صحيح، لذلك نتفاهم، بل يتشكل رباط، جوهر مانعيشه. تلفّ أناملها كأس الشاي وهي تكشف عن بوحها، تتأمل، تبتسم، يفعل الجمال مفعوله، لغة دقيقة، ذهن لامع، معاينة ثاقبة للتأثيرات الأولى، ثم رافقتها بين طيات بوحها.. لقد شكّلت تفردها في هذا المكان الآخر.
أسمع تاريخها، تلاحِقُ متاهة الوجود، أقتفي ثانية الآثار، الطفولة في بلغاريا الشيوعية، الدراسات، المنفى، الشخصيات التي صادفَتْها، أحبَّتْها، الزواج مع سولرز باعتباره فَنّا من الفنون الجميلة، إنجاب طفل اسمه دافيد، العمل المستمر دائما، الأسفار المتعددة، الصين، الإصدارات، التحليل النفسي الفرويدي، النسوية ضمن سياق سيمون دو بوفوار، الشعر، الإشراف على هيئة وطنية للمعاقين، تجارب، مآتم، ثم تنبثق أعمال جديدة. لقد حولت جوليا كريستيفا الترحال إلى فعل حيوي، وجعلت من الأحزان حدّة للذهن، ثم تذوقها الفن واهتمامها بالأدب، إلى تذوق للآخر. تمتد نظرتها كليا نحوي، تخترقني وتتمثل الآخر. أعيش تماما هذا التواطؤ الضمني، وكذا اللقاء الحقيقي.
هل تعرفون جوليا كريستيفا؟ ليس تماما، مع أنها ذائعة الصيت، لكن في مكان آخر. فيما يخصني، اكتشفتها بفضل ماري– فرانس كاستاريد مختصة نفسانية اشتركتُ معها في كتابة عمل حول صراع الأجيال، فنصحتني بحضور إحدى ندوات كريستيفا. ذات ليلة، قصدت إحدى المكتبات غير البعيدة عن مدينة مونبارناس قصد الاستماع إليها، كانت بصدد الحديث عن كتابها" اندفاعات الزمان"، عقل فذ، تسامح بخصوص معرفة الغير، فضول لايتوقف، دوَّامة أفكار مذهلة: راهن الموروث الفرويدي، أوروبا المأزومة، الزواج بالنسبة للجميع، الأمومة التي تحظى بالقيمة والحاجة إلى الاعتقاد، لقد أسرني نفاذ بصيرتها وكذا زخم حقل أبحاثها. قرأتُ عملها "اندفاعات الزمان" ثم كتبتُ حوله مقالة مفعمة بالحماسة، نشرتها في موقع: '' Huffington post''. بالنسبة لأزمنتنا الحالية الفوضوية جدا، حيث تتفتت اللغة، وتضيع الحياة النفسيةح تقترح جوليا كريستيفا إعادة بناء الإنسانية. خلال اليوم ذاته تلقيتُ منها ثناء عبر رسالة إلكترونية صغيرة، أشعرتني بنوع من الفخر.
بعد مرور أشهر، اقترح علي كلود دوران الرئيس المدير العام لمنشورات فايار، خطة هذه السيرة عن كريستيفا في صيغة حوار، عمل يجمع بين البيوغرافيا وكذا البحث النفسي، وقد تطلعت فعلا جوليا إلى إنجاز المشروع. هل حدث خطأ فيما يتعلق بالشخص الموكولة إليه مهمة من هذا القبيل؟ ليس كذلك، بل أعتبر الرجل المناسب، لأني اختصاصي نفسي إكلينيكي وكاتب، بل وزيادة على كوني رجل ثقافة وفن، أشعر قبل كل ذلك بأنِّي حرفي، مهني، أكتب بقدر من الاحتياط بدل الحماسة، حتى أدرك، أنه يلزمني الكتابة أكثر، وأعيد تناول ماكتبته، ثم أبدع، وأكتشف من جديد. فهل سأكون قادرا على الدفع بهذا الاكتشاف غاية الجانب الحميمي الذي احتفظت به كريستيفا لنفسها منذ زمن بعيد الأمد؟.
اقتضى الأمر بداية قراءة جل أعمالها، نصوصها الروائية من "الساموراي" وصولا إلى "ساعة الحائط المبتهجة''، ثم ثلاثيتها حول العبقرية النسائية "حنا أرنت، ميلاني كلاين، سيدوني كوليت".أيضا، دراساتها النظرية: الشمس السوداء، قوى الرعب، حكايات العشق، ثم باقي أعمالها الأخرى.
إذن، يلزم أشهر عديدة كي أستأنس مع متنها النظري الذي يوثق لسنوات تدريسها بجامعة باريس-7، أو في الضفة الأخرى للمحيط الأطلسي، وإعادة عرض معاركها العديدة... نعم، أشهر عديدة حتى أرسم خيوط قوة حياة استأثر بها مطلقا الإبداع والتسامي، وأتناول من خلال ذلك النظرية وعند تخوم الخيال، خطاياها الصغرى، فظاظاتها ثم أسرارها الدفينة.
يغمرني الحنين وأنا أتخلى كي أمنحكم فرصة اكتشاف عملنا هذا، سأفتقد أحاديثها وضحكاتها. لقد طاب لي أن أتركها تقوم بما تبرع فيه: تطوير وكذا تدقيق فكرها، بينما نتقدم نحن تائهين بين طيات أمكنتها ثم نهتدي ثانية، أتمنى أن يجد القارئ سعادة متابعة مسار هذه السيدة الاستثنائية، الجذابة كثيرا والمبدعة جدا، أما فيما يتعلق بي، فلن أنساها قط.
مصير قلم، "عالَم متعدد" حسب تعبيرها، أجنبية معروفة، ومجهولة مألوفة، متمردة هادئة، فكر يلامس النواة الصلبة للكائن البشري الذي يكشف عن عذابات وكذا فضائل الغيرية في ذاتها، ثم خارج ذاتها.
جوليا كريستيفا؟ هذا الهناك البعيد، القريب جدا، مع ذلك.
*مصدر المقالة :
Julia Kristeva :je me voyage ;Mémoires ;entretiens avec Samuel Dock :Fayard ;2016.pp :9-13.
سعيد بو خليط
http://saidboukhlet.com