إن أعظم الإنجازات في التاريخ؛ انطلقت من رؤى وأحلام الأفراد أولا، كاستجابة متخيلة لطموحات الجماعات، حين توفرت لها الإرادة وأدوات عقلنتها برباط العلم والخبرة ومحددات بيئتها الموضوعية ومن ثم إطلاقها إلى أفق تحقيقها، ولكن تلك الرؤى التي لم تتوفر لها هذه الاشتراطات استحالت إلى أضغاث أحلام وأمنيات بعيدة المنال.
واستحقت هذه المقدمة حضورها إزاء رؤية رئيس الوزراء الجديد لبناء الدولة الفلسطينية المستقلة بالتوازي مع تحقيق الطموحات التنموية، والذي يوصف بأنه يتمتع بخبرة عميقة في بناء وإدارة المؤسسات وتطويرها، كما يمتلك رؤية حول التنمية في فلسطين حيث أطلق شعار التنمية العنقودية لتطوير الاقتصاد الفلسطيني.
وما بين تلك الرؤى وخطاب د. محمد اشتية كرئيس للوزراء؛ تكمن محاولة للمزاوجة بين ثقافة نشأته في الحركة الوطنية و النضال لبناء الدولة، مع ثقافة اقتصادية ما بعد حداثية ترسخت في العقود الثلاثة الأخيرة، يستعين بها في محاولة منه لرتق الفتق في العلاقة بين التحرري والتنموي الذي وصلت إليه الحالة الفلسطينية.
ويستمد شعار التنمية العنقودية بريقه الخاص من مكانته في خطاب رأس الهرم الحكومي والذي يرى فيه الرافعة الأساسية للتنمية الاقتصادية وانعكاساتها الاجتماعية كمولد للدخل وفرص العمل ومواجهة الفقر والبطالة، فما هي ممكنات تحقيق الشعار والتحديات التي تواجهه؟
وما يجعل هذا التساؤل مركزيا، هو التوصل للإجابة التي تتيح لنا المباشرة بتنفيذ هذا الخيار التنموي على اعتبار توفر الاشتراطات الموضوعية لانتهاجه، وتكريس الإمكانيات ومتطلبات العامل الذاتي في خدمة تحويله إلى واقع عبر المسارات المتاحة، بالارتقاء بما هو قائم أو استحداث البنى الجديدة التي تجسد العنقود او العناقيد المطلوبة والموزعة بطبيعتها على القطاعات الاقتصادية المختلفة.
أما في ظل غياب العامل الموضوعي الأكثر ضرورة وهو السيادة على الاقتصاد السياسي والسياسات الاقتصادية والنقدية، ومن فوقها السيادة الجغرافية التي تمثل روح التنمية العنقودية باعتبارها قائمة على الجغرافية الاقتصادية؛ فإننا نتحدث هنا عن شعار يستوجب تحقيقه المرور الإجباري بالتحرر الوطني، الذي يؤدي إلى السيطرة على الموارد من جغرافيا وثروات طبيعية وانسياب حركة الأفراد والسلع ورأس المال دون عوائق يفرضها الاحتلال.
ولا شك أن تجربة نشوء التجمعات الصناعية في الأرض المحتلة، والتي نشأ بعضها بتطور شبه عفوي وفي غياب سياسات اقتصادية وطنية شاملة، أو تلك التي نشأت بناءً على توصيات مؤتمرات وورشات اقتصادية عقب قيام السلطة الوطنية، ستعتبر الأرضية الأساس المفترضة للبناء عليها ممن يتبنى استراتيجية التنمية العنقودية المطروحة.
وهنا لا بد من فض الاشتباك بين الإجابات على السؤال التنموي في فلسطين، بين من يعتقد بإمكانية إنجاز خطط التنمية في ظل الصراع والاحتلال كجزء من معركة بناء الدولة، والرهان على تقبل الاحتلال لاستقلالية اقتصادية في فلسطين المحتلة، وحتى بعد استقلالها السياسي، وبين من يرى أن لا تنمية ممكنة في ظل الاحتلال وموازين الصراع التي تميل لصالحه على كافة الجبهات الضرورية لإنجاز تنمية تعزز الاستقلال الوطني.
فإسرائيل التي تبحث عن مصالحها السياسية العابرة للقارات، لا يمكن أن تتنازل عن سوق استثنائي المميزات، أو تقبل بمنتج ينافس منتجها بدون اتفاقيات مسبقة تضمن لإسرائيل حصة الأسد، كما يوجز المتسائلون إجابتهم.
والأمر يتجاوز ذلك إلى السياسات الاقتصادية الإسرائيلية التي ترى في الأرض الفلسطينية "حزام التنك" للمدينة الإسرائيلية المزدهرة، التي يجب أن تبقى في مجال الخدمة لها إنتاجيا وبيئيا وتسويقيا ويرفدها بالعمالة السوداء غير وشبه الماهرة، كما يتلقى حزام التنك هذا، سيول مخلفات المصانع الملوثة ويمتص بضائعها الفائضة والفاسدة، بتخديم كل مقدرات كيان الاحتلال لتحقيق هذه الأهداف، تحت مظلة السياسات والرقابة الأمنية، وبما يتيح ضبط وهندسة المجتمع الفلسطيني وتخطيط الجغرافيا واستخداماتها، وفرض وقائع على الأرض تحكم سير أي عملية تنمية وطنية.
ويرتكز ما سبق على حرص كيان الاحتلال على "تابو" عدم السماح بالاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الأراضي الخاضعة للسلطة الوطنية، وهو الأمر الذي تمارسه عدوانية الاحتلال يوميا بالقتل والمصادرة والاستيطان والاعتقال، وتصوير نفسها بأنها في حالة حرب دفاعا عن وجودها، بحيث يصبح من الصعوبة بمكان تنفيذ خطة قصيرة أو متوسطة أو بعيدة المدى نتيجة تغير معطيات الواقع يوميا من إغلاقات وحواجز وإجراءات فصل وعقوبات بحجج أمنية، والتجربة القريبة خير شاهد.
وإذا ما كانت السلطة الوطنية ممنوعة من ممارسة حكمها السياسي والإداري على خريطتها الوطنية للضفة والقطاع كما تحددها الشرعية الدولية لعام 1967، ويحظر المسح الجغرافي واستخراج الموارد والتعدين والزراعة في معظم هذه الأرض إلا بما تجود به دولة الاحتلال؛ فإن القول بالتجمعات الاقتصادية العنقودية وفق المتاح سيساهم بحسن نية في تكثيف الحضور السكاني والاقتصادي وفق الجغرافيا التي يهندسها الاحتلال للسيطرة على معظم أراضي وموارد الضفة الغربية وقطاع غزة.
ومن جانب آخر يكرس مقولة "الدواخل والأطراف"، فتنحصر الحياة الفلسطينية في الدواخل، وهي هنا المدن والقرى المركزية في المحافظات، لتبقى امتداداتها الجغرافية مجالا مفتوحا للسيطرة الاستيطانية والعسكرية أو الاستثمارية أحيانا بإقامة تجمعات صناعية عنقودية إسرائيلية على مساحات شاسعة لا يتقبل الاحتلال نتائجها داخل الخط الأخضر -الخان الأحمر مثالا.
ومع إدراك هذا الواقع، فإن الاستجابة الفلسطينية للتحديات القائمة ما ظهر منها وما بطن، تتطلب استراتيجية انعتاق وتحرر وليس استراتيجية انفكاك وإعادة انتشار اقتصادي، وهذا ما يتطلب إطلاق مشروع دراسات معمقة للواقع ومدى القدرة على تكييف النماذج الناجحة في العالم مع هذا الواقع، وخاصة تلك النماذج التي نجحت في ظل الصراع الوطني والاحتلال الأجنبي.
أما إذا وجدت الحكومة الحالية نفسها مقتنعة بالمباشرة بإطلاق هذا النموذج التنموي وبناء المؤسسات الضرورية لقيامه من مراكز بحث علمي ومؤسسات تدريب مهني وتقني لإعداد الموارد البشرية وإنجاز التخطيط لتجمعات العناقيد في ظل الاحتلال؛ فإن ثمنا سياسيا واقتصاديا لا بد منه، أقله البحث عن التكامل مع العناقيد الصناعية المجاورة جغرافيا والمماثلة قطاعيا، مقابل توفير بيئة الاستقرار وعدم وضع الصعوبات أمامها كمنافس.
ويتمثل الثمن السياسي في اتجاهات الكيان الإسرائيلي لعزل المناطق الفلسطينية وقطع تواصلها إلا من خلال معابر تحت سيادته وتسهيل التحكم فيها برغبته، وهو ما سمي بالكنتنة المفروضة بنيويا عبر طرق التفافية وعنصرية وأنفاق وجسور ونقاط تفتيش "تضمن عدم المساس بالأمن" خاضعة بشكل كلي له.
وحين تأتي رؤية مدينة أو تجمع صناعي أو زراعي كعناقيد اقتصادية في قطاعات محددة، فإن هذه العناقيد بمدخلاتها ومخرجاتها ستحتكم إلى سياسات الاحتلال الاقتصادية، والتي ستضعها في موقع التابع والمتصل بخدمة الاقتصاد الإسرائيلي موضوعيا، أكثر منه جزءا لبناء اقتصاد فلسطيني، لتكتمل الكنتنة السياسية بالكنتنة الاقتصادية، وينشأ اقتصاد سياسي ببنية تحتية تحقق ما يصبو له الإسرائيلي.
وإذا ما خيب سلوك الاحتلال تحليلاتنا وسوء نيتنا، فإنه في أفضل الأحوال سيسمح بالمحاولة للارتقاء بالمناطق الصناعية والزراعية القائمة كتجمعات مكانية إلى مستوى تجمعات عنقودية، تخضع مردودات مدخلاتها ومخرجاتها للنظام المتبع حاليا ولا تصب في انعتاق الاقتصاد وسياساته الكلية.
وفي ظروف فقدان السيطرة والسيادة أمام عنجهية وعدوان الاحتلال، فإن فرض قواعد التجزئة وضرب الوحدة الفلسطينية سيضع التجمعات الصناعية بين خيارات استمرارها عبر علاقة التابع مع التجمعات الإسرائيلية القريبة، وبين خيار الضعف إن لم يكن الاندثار.
ولا يخفى على أحد أن بعض التجمعات الصناعية تعرضت للضعف والهزال في الوقت الذي تعمقت فيه منشآت منفردة إلى حد غير مسبوق، اعتمادا على التكنولوجيا وتسهيلات التصدير، وعلى حساب فرص العمل المفقودة في التجمع المستضعف والتي تم الاستغناء عنها في المنشأة المنفردة.
ومن المفيد الإشارة إلى ارتكاز التنمية العنقودية نظريا على منظومة متكاملة من الممكنات التي ينبغي توفرها في جغرافيا العنقود القطاعي، من أيدي عاملة متخصصة ومراكز بحث وابتكار وتطوير وموارد المدخلات للعملية الإنتاجية وميسرات الإنتاج والتسويق، وكل ذلك في شبكة متناغمة من الأفراد والمؤسسات الشريكة.
ومن الواضح أن جزءا مهما من هذه الممكنات غير متوفر بمستوى الحاجة له في الجانب الفلسطيني، مما يفتح الباب أمام ذرائع التشبيك والشراكات مع أطراف أخرى تحددها ماهية الحاجة وتكلفة الحصول عليها ماديا ومعنويا.
وفي ظل الحديث عن صفقة القرن، والتي تتكثف في الرؤية الأميركية للحل الاقتصادي للصراع العربي الفلسطيني مع إسرائيل وذهاب معظم دول الإقليم لهذا المنحى؛ فإن القدرة تتوفر للولايات المتحدة وإسرائيل لفرض رؤية على الواقع، تستجلب الحلفاء العرب والفلسطينيين لتوظيف الاستثمارات في عناقيد صناعية وزراعية، ولكن على قاعدة – بينيلوكس إقليمي- بين إسرائيل والسلطة والأردن- وهو نموذج تعاون اقتصادي إقليمي أوروبي، كان د. محمد اشتية قد حرر قراءة اقتصادية لخبراء حولها وتم إصدارها باللغة العربية في التسعينيات من القرن الماضي.
كما أن المحور الاقتصادي الذي يتشكل في المنامة على أسس تحالفية صلبة سياسيا وعسكريا ووفق تحديد واضح لمعسكر الأعداء؛ بمثابة تعبير مادي عن بناء السوق الشرق أوسطي الجديد بمظلة أميركية وأنياب إسرائيلية، سيفرض قواعده على مجمل المنطقة وأساسا على إرساء بنية تحتية "ناعمة" لاستسلام سياسي فلسطيني للأمر الواقع.
فالمواجهة مع مخرجات المنامة ستضيف دولا عربية داعمة ماليا للفلسطينيين إلى قائمة دول الحصار والعداء للمشروع الفلسطيني التحرري، وهي دول نافذة في المجتمع والطبقة السياسية في أوساط رجال الأعمال، مما يسهل عليها تفكيك الموقف الفلسطيني من صفقة القرن ذاتها والانتقال بالقضية الفلسطينية إلى نفق جديد من زمن دوام الاحتلال فيه عديم الكلفة.
وإذا ما تجاهلنا إعدادات المنامة، فإننا نكون مثل من ينشغل في تنظيف الأواني داخل المنزل تاركا الحديقة تأكلها النار، وتحت رحمة الجيران والعابرين لإطفائها والعبث بأسوارها وتحديد ممراتها وأشجارها كما يحبون رؤيتها.
ومن هنا فإن المواجهة مع المشروع الأميركي المدعوم عربيا وصهيونيا، لا تكون بطرح خيارات اقتصادية قد تشكل أسنانا لعجلة الحل الاقتصادي، وإنما بالعودة في الصراع إلى جذوره التي تتطلب تحديد معسكر الأعداء ومعسكر الأصدقاء دون مواربة، ونفض اليد من مشاريع التسوية القائمة بالعودة إلى موقعنا كحركة تحرر وطني تمتلك كل الخيارات للنضال ضد الاحتلال، وبغير ذلك فإن الباب يبقى مفتوحا للانفجار الداخلي بين قوى وأجيال ترى أنها تفتقد للكرامة الوطنية المسلوبة وبين طبقة سياسية تحكم بما أنزل عليها الاستعمار والاحتلال.
وهذا يقودنا إلى أولوية مطلقة، تسبق أي جهد نضالي وطني أو تنموي، وتتمثل في ردم فجوة الثقة القاتلة ما بين الجمهور الفلسطيني، وبين مراكز المسؤولية السياسية والحكومية وصولا للمجتمع المدني، هذه الفجوة التي أودت بأهم مشروع اجتماعي واقتصادي وطني طوال عقدين وهو قانون مؤسسة الضمان، وكما تتجلى عموما في انفضاض الرأي العام عن السلطة وفصائل المنظمة وبرامجها والاتجاه نحو من يختلف معها بغض النظر عن النتائج والمواقع.
ولأن نجاح أي خطة أو برنامج لأي حكومة يقوم على مدى تعاون الشركاء والمجموعات المستهدفة، فإن مسألة بناء الثقة تبقى الخطوة الأهم في إرساء بنية تحتية صلبة يبنى عليها أي برنامج تحرري أو تنموي، يقوم على إصلاح وتطوير المؤسسة الحكومية كمقدمة لحل أزمات الاقتصاد الكلي والجزئي وتطوير الخدمات.
وتبدأ الحكاية من الهيكليات المترهلة والممجوجة لمعظم الوزارات والهيئات والناجمة عن تحويل الخدمة المدنية إلى تكية وفرصة تشغيل، الأمر الذي أدى إلى ضرب الإنتاجية الكمية والنوعية في السياسات والخدمات المقدمة، في ظل تضخم وظيفي مركزي كسول، بينما يبقى الموظف المنتج في الميدان والدرجات الدنيا غارقا في إحباطه، وجل همه الاستزلام لمسؤول لينال ترقية أو تقديرا.
ولا يمكن الاكتفاء بتصحيح المؤسسة الحكومية للنجاح، بل الأمر يمتد إلى تصويب أوضاع كافة الشركاء الاجتماعيين والاقتصاديين والهياكل المؤسساتية الممثلة لهم، فالاتحادات العمالية المرسومة بخطوط الفصائل أثبتت عجزا مطلقا في تعبيرها عن مصالح العمال ميدانيا، كذلك الاتحادات المعبرة عن القطاع الخاص والتي يستحوذ عليها ممثلوا أقل من 5% من أصحاب العمل، أوضح أمثلة على ذلك
كما أن المباشرة بمحاسبة الفاسدين فورا وتفعيل مبدأ من أين لك هذا، ونبش ملف الإثراء غير المشروع الذي ساهم أكثر من الاحتلال في تفكيك الثقافة والقيم الوطنية وضرب معززات الصمود، مما يستدعي مصالحة اجتماعية بين الشعب ومؤسسات الحكم وترسيخ عقد اجتماعي وطني.
وإذا كانت المصالحة السياسية أولوية للملف السياسي فإن المصالحة المجتمعية تبقى أكثر أهمية لمعالجة الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سياق التنمية الشاملة، فغياب الثقة من قبل المحكوم تجاه الحاكم، تنعكس في النظر إلى خطط وخطوات الثاني من قبل الأول بالتشكك وعدم الجدية واعتبارها أداة عمل لمجموعة حاكمة لترسيخ نفسها وتحقيق مطامعها في السلطة والحفاظ على مصالح جماعاتها.