السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

المسؤول والراتب والمساءلة/ بقلم: د. حسن أبو لبده

2019-06-02 10:18:36 AM
المسؤول والراتب والمساءلة/ بقلم: د. حسن أبو لبده
د. حسن أبو لبدة


 

تابعت خلال الأيام الفائتة ما يشبه الانتفاضة في وسائل التواصل الاجتماعي والمجالس العامة وغيرها، بشأن الزيادة التي تمت على رواتب وزراء الحكومة السابعة عشرة.  وبقدر ما أتفهم الغضب العارم من العامة وقيادات الصف الثاني في بعض فصائل ودكاكين العمل الوطني، والذي يرتكز معظمه إلى أن الزيادة غير مبررة في الوقت الذي ترفع في الحكومة شعار التقشف، بينما يرتكز البعض الآخر إلى صدفة اكتشاف هذه الزيادة بعد أكثر من عام من صدور قرارها (وهي صدفة غير بريئة برأيي)، وربما عدم صدورها بقانون كما ينص القانون الأساسي على ذلك، أو ربما لقيمتها المادية، وتقدير الغاضبين بعدم ضرورتها لتدني تقييم أداء الوزراء بتقديرهم، ولصرفها خلافا لشعار التقشف الذي حملته الحكومة، في هذه الظروف تحديداً.

بداية لم يجزم أحد حتى الآن بأن هذه العلاوة صدرت خلافا للقانون، أي أنها قد تكون صدرت بقرار مجلس وزراء ومصادقة/موافقة/مباركة الرئيس (كما أفاد رئيس الوزراء السابق في وسائل التواصل الاجتماعي)، وهذا بحد ذاته مخالف للقانون استنادا للمادة 81 (تحدد بقانون مخصصات رئيس الوزراء والوزراء ومن في حكمهم)، وإن كانت صدرت من خلال "قرار بقانون"، وهذا هو الأصول، فقد يكون هذا القرار غير منشور في مجلة الوقائع كما هو متوقع ومطلوب كشرط للنفاذ، أو أنه مر مرور الكرام دون ملاحظة أحد أو الاهتمام به.  

ولكن لم يتطرق أحد الى أن القضية الأهم هنا وفي العمل العام عموما، ليس الراتب الذي يتقاضاه الموظف (بغض النظر عن مرتبته الوظيفية) لأهمية ذلك، وإنما مدى كفاءة الأداء في الوظيفة العمومية ونجاعة استخدام المال العام، ومدى الجهد المبذول لصيانته والتقيد بصرفه للغايات المناسبة وطنيا ومهنيا، في الوقت المناسب والمكان المناسب والطريقة المناسبة.

هل يجدي نفعا وضع المسؤول في موقعه وعدم تقييم أدائه وإنجازاته دوريا؟، وهل سيكون حال البلد أفضل لو تم تخفيض رواتب الوزراء بدل رفعها؟، وهل من المتوقع تغير أداء الوزير إيجابا لو تمت مضاعفة راتبه عدة مرات؟، وهل يغني تدني أو ارتفاع رواتبهم عن مساءلتهم بشأن طبيعة ونتيجة طريقة إدارتهم لمواقعهم؟، ومدى تقيدهم ببرنامج وطني يرتكز إلى الالتزام بالثوابت، وتوجيه وزاراتهم لتكون ورشة متصلة ومستمرة للانفكاك عن الاحتلال في مجالاتهم ومواقعهم والقطاعات التي يديرونها، وما هي قيمة العلاوة التي حصل عليها وزراء الحكومة السابقة؟، بالمقارنة مع الثمن الذي ستدفعه البلد نتيجة لسوء أداء أي منهم، أو استغلاله لمنصبه، أو تقاعسه عن تحويل وزارته إلى خندق أمامي في مواجهة استمرار الاستيطان، وتعميق الارتباط بإسرائيل، وإدامة الإحتلال، مع التأكيد هنا بأنني لا أقصد أحدا بعينه في ما سلف.  بالأحرى، فإن ما هو واجب النقاش هنا هو البيئة الناظمة لوظيفة المسؤول وآفاقها، في بلد يعاني من الفقر واستمرار الاحتلال والشرذمة السياسية والانقسام، خاصة في ضوء أن هذا الموضوع الجدلي يحصل على اهتمام ومتابعة محليا، أكثر من اعتداء "صفقة القرن" الغاشم، وعجزنا عن التأثير عربيا أو عالميا لخلق الاصطفاف الكافي لصدها، والتعبئة الوطنية الشاملة لمقاومتها.

لست مدافعا عن أحد في هذا المقال، وبرأيي أن العلاوة لم تكن في محلها، خاصة وأن وظيفة الوزير ليست منصبا اقتصاديا ينتظر من العائد المجزي، وإنما هي مهمة سياسية نضالية مهنية في مثل ظروفنا.  ولكنني أطمح لتكون هذه الواقعة سابقة لتفعيل المساءلة الشعبية، وتعزيز الرقابة على الأداء، ورفع الصوت عاليا دفاعا عن قيم المسؤولية والالتزام الوطني في ممارسة الوظيفة العامة بشفافية مطلقة، والتعاطي مع هذه القيم بأمانة وسلوك وانتماء غير مفصل وفقا للأهواء السياسية أو القبلية أو تصفية الحسابات الشخصية.

تؤكد هذه الواقعة أننا "أُكلنا" يوم صمتنا على تغييب المجلس التشريعي نتيجة التناحر السياسي، وعدم الالتزام بعقد الانتخابات العامة في موعدها، لتحصين مجتمعنا وقضيتنا من التطاول على المال العام والترهل في الأداء، وتفريغ الوظيفة العمومية من محتواها، والاستكانة في مواجهة الاحتلال والنشاط الاستيطاني المحموم، وكمخرج حتمي لحالة الضياع والشرذمة والانقسام المقيت والمميت، إن ممثلي الشعب المنتخبون هم الضمانة لاستقامة الأداء في الوظيفة العمومية، حيث تكون منظومة المساءلة في أوج كفاءتها.

في بلدي، هناك للأسف منظومة متكاملة ومزدهرة لإهدار الموارد البشرية والخبرات الفنية والمال العام، ما يتطلب ثورة شاملة على استمرار ازدهارها، وليس فشة خلق موسمية في وسائل التواصل الاجتماعي.  وإن والرأي العام باعتقادي محكوم ومقولب بمزاج سلبي وتركيز على الصغائر، بينما ينهار الحلم الفلسطيني أمام ناظريه، ويجري تهويد القدس وقضم الضفة الغربية وتكريس الفصل والانقسام، دون أن ينتفض شعبنا بكافة أطيافه رفضا للواقع المعاش، وثأرا لكرامته الوطنية وتاريخ أمة معمد بالدم والتضحيات.

ملخص القول، إن خطأً كهذا يجب أن لا يمثل نهاية الكون والطامة الكبرى، ولدينا مئات الأمثلة على خطايا تم اقترافها بحق المال العام والبرنامج الوطني للتحرر وإقامة الدولة الفلسطينية، تحت العين وفي وضح النهار دون مساءلة أو حتى معاتبة.  ولا بد من شكر الصدفة، وسوء نية الجهة التي سربت كتاب هيئة التقاعد، لاكتشاف القرار وتصويبه، وليس من المناسب أن يتم استخدام هذه الواقعة لتصفية الحسابات الشخصية، بل إنه من الأنسب تحصين المسؤولين من الوقوع بمثل هذه الأخطاء، والدوائر الفنية في مجلس الوزراء التي ربما لم تنتبه الى المادة 81 من القانون الأساسي آنفة الذكر.  وبرأيي أن المسؤولية في اقتراف هذا الخطأ تقع على عاتق كل من بادر إلى طرح هذا الموضوع في مجلس الوزراء، أو شارك في نقاشه، أو الموافقة عليه، أو نفذ الصرف، وليس شخص رئيس الوزراء السابق فقط.

من نافلة القول أن لكل مرحلة مثالبها، ويتحمل شاغلو قيادتها ومرجعياتهم المسؤولية عن الأخطاء المقترفة.  وإنما الخطيئة الكبرى هي استمرار القبول بغياب منظومة مساءلة صارمة تطبق على الجميع سواسية، من رأس الهرم وحتى أصغر مرتبة وظيفية في السلطة الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص، والتعايش مع الانخفاض المستمر لسقف طموحاتنا السياسية وثوابتنا الوطنية، والقبول بواقع الانقسام الشعبي والجغرافي، والتمترس في مقاعد المتفرجين بانتظار الفرج.

لا تبنى الأوطان وتتحقق المواطنة بالشعارات، وإنما بالممارسة على الأرض والمساواة أمام القانون، في ظل نظام قضائي نزيه وعادل وفاعل، ومنظومة مسائلة محصنة من أي عبث، ورقابة صارمة على سلوك وممارسات كل مسؤول في موقعه.  وأملي أن نقلب هذه الصفحة وغيرها من الصغائر، ونشمر عن سواعدنا والإستعداد لمواجهة ما هو قادم بجبهة داخلية موحدة، ومشاركة شاملة في تحمل المسؤولية ودفع ثمن الصمود. والله من وراء القصد.